مسرح العبث..!
انقلاباً على المألوف والسائد، وكسراً للروتين والرتابة، وربما بحثاً عن الدهشة، نجح المسرحيون ذات يوم في تقديم شكل جديد للكتابة والفرجة المسرحية أطلقوا عليه فيما بعد (مسرح العبث واللا معقول).. ومن بين أطروحاته التي لفتت إليها الأنظار وأحدثت رجة في الحياة الفنية مسرحية (في انتظار جودو) التي تتحدث عن الترقب للمنقذ والمخلص الذي لا يأتي حتى إسدال الستار على المسرحية، في إشارة ذكية إلى حالة اليأس والإحباط المتفشية في العالم ومحاولة تمسكه بالوهم الذي لا يعني في محصلته الأمل ولا النهايات السعيدة..!
(العبث) كان معادلاً موضوعياً لما خلفته الحروب العالمية من خراب ودمار، وكان أيضاً رداً إبداعياً على نظريات الأيديولوجيا التي تفشت آنذاك في محاولة منها لتقديم معالجات فكرية لمشكلات البشر، لكنها لم تصمد أمام الأسئلة الوجودية الكبيرة، بل انحنت للعاصفة مثلها مثل المؤسسة العسكرية التي كان منطقها هو (القوة)، لتكتشف لاحقاً أيضاً أن لا أحد يكسب رهان الحرب وأن كل من يشارك فيها هو خاسر..!
(العبثيون) آنذاك قدموا أعمالاً ضد هذه المؤسسات بشقيها الفكري والعسكري، وفضحوا هشاشة الأسس التي تقوم عليها وأنجزوا أعمالاً فنية صارخة ضد الرتابة والتسطيح والإسفاف والضحك على عقول البشر.. وجوبهوا في المقابل بمعارضة كبيرة ليس من هذه المؤسسات فحسب، وإنما أيضاً من النقاد والمتفرجين الذين كانوا يخرجون من هذه العروض المسرحية ويقولون: (إنه مجرد عبث.. إننا لم نفهم شيئاً)..!
هذه المقولات كانت تمثل في الواقع قمة النجاح للعبثيين، فهم يعزفون على وتر اللا جدوى واللا معنى، وينشطون بذكاء وفاعلية في نقل عدوى (العبث) إلى غيرهم، حيث كانوا يرون في ذلك طريقاً وحيداً للتخلص من الغباء والسطحية والرتابة التي أخذت تحكم سطوتها على البشر حتى حولتهم إلى مجرد مستهلكين للثورة الصناعية التي أفرغت عقولهم من الأفكار الطليعية، وبدأت مبكراً في تأسيس نظرية العولمة باشتراطاتها الصعبة وفرضياتها المستحيلة..!
الآن وفي هذا الزمن، تحول كل شيء إلى مسرح العبث.. ولم يعد العالم بحاجة إلى عبثيين جدد حتى يقدموا من على خشبات المسرح أعمالهم الساخرة.. فالسياسة الدولية هي مسرح كبير للعبث.. وأحوال الأنظمة والدول لا تقل عبثية.. أما البشر فهم (عابسون) و(عابثون) وانقلبت أفكارهم رأساً على عقب وهم يغرقون في فوضى العالم التي لم يعد يحكمها قانون أو يسير أمورها عقلاء!!
عبث يسد الأفق ويجعل كل الأشياء تبدو ضبابية وقاتمة، ومن يعترض على هذه (الصور المقلوبة) فهو إما مجنون أو أحمق، حيث عليه أن يقنع (محكمة العبث الدولية) بأن هذه الصور مقلوبة بالفعل.. وحيث يتوجب عليه أن يبحث طويلاً حتى يجد آخرين مثله، يرون ما يراه، وليس ما تقدمه شاشات العرض من صور هي (مقلوبة) تماماً.. ولم يعد الناس في حاجة إلى أن يسيروا على رؤوسهم بدلاً عن أقدامهم حتى يروها كذلك!!