أمير قطر في «الـخرطوم».. شيخ «تميم» نموذج القيادة الجديدة
تحط طائرة أمير قطر الشيخ “تميم بن حمد آل ثاني” في الخرطوم اليوم، في زيارة يوليها المسؤولون السودانيون اهتماماً بالغاً لطبيعة علاقات السودان وقطر التي تتسم بالمتانة والتنسيق في المواقف السياسية بين البلدين، في وقت يرى فيه مراقبون أن الأهداف الاقتصادية ستشكل أهم نتائج الزيارة بالإضافة لملفات تقف “الدوحة” على رأسها، مثل قضية سلام دارفور الذي يجد دعماً دولياً وبخاصة من الولايات المتحدة الأمريكية التي ظلت تؤكد على ذلك مراراً. في وقت تشهد فيه المنطقة تحولات وأحداثاً متلاحقة لابد وأن تجد حظها في طاولة مباحثات الأمير “تميم”، الذي تستغرق زيارته يوماً واحداً مع نظيره الرئيس “عمر البشير”.
النهوض القطري :
الخارجية السودانية من جهتها رحبت بزيارة أمير قطر التي تأتي في سياق جولة عربية بدأها بالأردن فالسودان والجزائر، حيث اعتبرت زيارته للسودان ذات أهمية خاصة لأنها تأتي في أعقاب مؤتمر القمة العربية الذي شهد محاولات جادة لتنقية العلاقات العربية العربية.
والدور القطري الذي بات متزايدا في المنطقة العربية بدأ عندما تسلم الشيخ “حمد بن خليفة آل ثاني” السلطة في العام (1995)، حيث قرّر حينها أنه يتعيّن على قطر رسم مسار جديد إن هي أرادت ضمان أمنها وتأمين مستقبل اقتصادي مزدهر ومستدام. ومثل الغزو العراقي للكويت في العام( 1990) كشف حال لضعف دول الخليج الصغيرة،
فأقامت قطر علاقات عسكرية مباشرة مع الولايات المتحدة. وبوصفه وزيراً سابقاً للدفاع، كان الشيخ حمد يمتلك خبرة واسعة في هذا المجال، وأدّت العلاقة إلى إنشاء قاعدتين أميركيتين كبيرتين في قطر: الأولى هي قاعدة “العديد” الجوية، والتي تؤوي القيادة المركزية الأميركية التي قادت حربي ما بعد( 11 )سبتمبر (2001) في أفغانستان والعراق، والأخرى معسكر “السيلية” الذي يستضيف أكبر قاعدة أميركية للتخزين المسبق للأسلحة خارج الولايات المتحدة.
وبوجود هذه العلاقات، تمكنت قطر من ضمان أمنها، وهو ما منحها الثقة لبناء سياسة خارجية مستقلة ودينامية
وذلك ما يقول به مدير مركز “كارنيغي” للشرق الأوسط “بول سالم”، الذي يرى أن الأساس الهام الآخر للنفوذ القطري الناشئ في الشرق الأوسط يتمثل في العملية الناجحة لتنويع اقتصادها، إذ أقنع تراجع أسعار النفط في الثمانينيات، والضغط الذي أعقب ذلك على نظام الرعاية الاجتماعية السخي، الأسر الحاكمة في شبه الجزيرة العربية بأنها إذا ما أرادت البقاء في السلطة فيتعيّن عليها تنويع اقتصاداتها بعيداً عن النفط. وفي سياق السعي لتنويع اقتصادها، سبقت دبي قطر، كما سبقت أبوظبي والبحرين، حيث اقتطعت كل من تلك الدويلات سوقاً متخصصة لنفسها وجذبت استثمارات خارجية قوية وأثبتت دبي، على وجه الخصوص، أن دولة – مدينة خليجية صغيرة يمكنها أن تطوّر علامة عالمية وتصبح مركزاً دولياً للاستثمار والخدمات والنقل والقطاعات الأخرى. قطر تعهّدت بالتعويض عن الوقت الضائع فإضافة إلى الاستثمار في التنقيب عن الغاز وتصديره، أدركت بأن الاستثمار المحلي يتطلّب مكانة إقليمية ودولية رفيعة، وبناء علامة عالمية لها، وقد قطع الشيخ “حمد” شوطاً طويلاً في تحقيق هذه الأهداف.
الغاز وقناة “الجزيرة”:
فكان العام (1991) هو نقطة الانطلاق بالنسبة للغاز مع بدء المرحلة الأولى من التنقيب في حقل غاز الشمال، الذي يقع في الخليج العربي في المياه الإقليمية لقطر وإيران، ويعتبر أكبر حقل للغاز الطبيعي في العالم، وأقدمت قطر على الاستثمار في منشآت الغاز الطبيعي المسال وتأمين الأسواق العالمية لصادراتها من الغاز، وهو ما مكّن بالتالي، صادراتها من الغاز من التحرّر من القيود الإقليمية. وقد وفرت الاتفاقات طويلة الأجل لتوريد الغاز إلى اليابان ودول آسيوية أخرى والارتفاع المطّرد في أسعار النفط والغاز عائدات ضخمة للدولة القطرية، ومكّنت “الدوحة” من تمويل سياسة خارجية قوية ومستقلة.
من حيث العلامة استفادت قطر كثيراً من خبرة وتجربة دبي فقد استثمرت بكثافة في مشاريع البنية الأساسية، وقدمت نفسها كمركز للتجارة الدولية والأعمال، ومضيفة سخية للاجتماعات والمؤتمرات الدولية من جميع الأنواع، ومركزاً للرياضة والتعليم والترفيه. ومن بين الإنجازات العالمية الأكثر وضوحاً استضافتها محادثات منظمة التجارة العالمية في العام (2001)، والتي أطلق عليها جولة “الدوحة” وكذلك استضافة دورة الألعاب الآسيوية والعربية، والفوز باستضافة كأس العالم لكرة القدم في العام( 2022) في غضون سنوات قليلة، وبذلك عوّض الشيخ “حمد” عن الوقت الضائع، وجعل “الدوحة” عاصمة عالمية حقاً. وكان إطلاق قناة “الجزيرة” الفضائية من بين مشاريع قطر الأكثر تأثيراً في العام (1996)،واستكملت قطر الدور الإعلامي القوي لقناة الجزيرة بأجندة دبلوماسية طموحة، ففي أوائل العقد الماضي أظهرت قطر نفسها على أنها الوسيط الرئيس في الصراعات الإقليمية، والتي تشمل الصحراء الغربية وليبيا ودارفور وفلسطين ولبنان واليمن وإثيوبيا وإريتريا. .
موقف محايد :
وقد خدم هذا الموقف المحايد العديد من المصالح القطرية، إذ ساعد في بناء العلامة الخاصة بقطر كصديقة للجميع في المنطقة، وبالتالي كوجهة محتملة للاستثمار، بل ربما حمى قطر من تداعيات الصراع الإقليمي من خلال التأكيد بأنها ليست عدوة لأحد، حيث أن بناء الاستقرار الإقليمي لا يمكن إلا أن يعزّز إمكانية التنمية الاقتصادية الإقليمية التي كانت قطر تأمل في لعب دور المركز فيها، كما أن من شأن بناء علاقات جيدة مع الجميع أن يزيد مكانة “الدوحة” العالمية كبلد ذي نفوذ في المنطقة تلجأ الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا واللاعبون العالميون الآخرون إليها، وحتى بعد اندلاع الانتفاضات العربية في ديسمبر من العام(2010 )، أكدت قطر مكانتها باعتبارها واحدة من الدول الوحيدة التي لها علاقات جيدة مع الجميع في المنطقة.
وكانت صحيفة (فايننشال تايمز) رأت في وقت سابق أن “قطر” هي الزعيم المحتمل للعالم العربي، واستندت الصحيفة البريطانية في تقريرها على أن ما أسمتها القوى التقليدية تراجعت بسبب الربيع العربي، مشيرة إلى أن قطر برزت كلاعب دبلوماسي عربي مدعومة بقوة مالية، كثالث أكبر احتياطي للغاز، وإعلامية متمثلة بقناة الجزيرة” القناة الإخبارية الأكثر نفوذا في العالم العربي.
ولفتت الصحيفة إلى أن دور قطر برز أيضاً مع دورها الدبلوماسي في دعم ثوار ليبيا لإسقاط العقيد “معمر القذافي”، وعزل الرئيس السوري “بشار الأسد” والتوسط لحل الأزمة في اليمن، قائلة: (إن الإمارة الوهابية لها علاقات جيدة مع مجموعات إسلامية كحماس، وحزب الله)، وفي الوقت ذاته دعمت حملة السعودية ضد المتظاهرين في البحرين.
ورأت أن علاقات قطر تطرحها كحليف أفضل للغرب، خاصة أن علاقتها مع الإسلاميين في المنطقة ذات أهمية كبيرة، حيث أن نفوذهم يتزايد بعد الربيع العربي، كما أن الأمير الشيخ “حمد آل ثاني” سار في طريق الإصلاح، معتبرة أن أفضل وسيلة لتشجيعه في ذلك الوقت هو أن يظل الغرب يتعامل معه. وترى أن ذلك يمكن أن يتم عبر التواصل أكثر مع قطر مستفيدين من وجود قاعدتين أمريكيتين.
إرث ضخم :
هذا الإرث الضخم من الإنجازات التي يستند عليها الأمير الزائر الشيخ “تميم بن حمد آل ثاني”، أمير قطر الجديد، البالغ من العمر( 33 ) عاماً الذي صعد سلم السلطة في قطر بسرعة، بعد إعلان الديوان الأميري القطري عن تنازل والده الشيخ “حمد بن خليفة آل ثاني” عن السلطة له ودعوة القطريين لمبايعته. ووجد الأمير الجديد الدعم من الأسرة الحاكمة القطرية فوالدته هى الشيخة “موزا بنت ناصر المسند” الزوجة الثانية لأمير قطر وتتمتع بنفوذ وقبول قوي داخل الأسرة الحاكمة هناك، بحسب تصريحات مصادر دبلوماسية وسياسية، ومنذ تعيينه ولياً للعهد، استطاع الشيخ “تميم” تسيير دفة المناصب الأمنية والاقتصادية الأساسية باقتدار. وتشير مصادر دبلوماسية إلى أنه تسلم تدريجياً كافة الملفات خلال السنوات الثلاث أو الأربع الماضية، فضلا عن الإشراف على خطط قطر المستقبلية الطموحة، لاسيما في مجال استثمار الرياضة لتعزيز مكانتها في العالم. تولى الشيخ “تميم” قيادة القوات المسلحة بالنيابة عن والده، ورئاسة اللجنة الأولمبية، وأصبح نائب رئيس المجلس الأعلى للشؤون الاقتصادية والاستثمار، وتولى رئاسة عدد من المجالس والهيئات الرئيسية في البلاد، أمثال المجلس الأعلى للتعليم والمجلس الأعلى للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والمجلس الأعلى للبيئة وهيئة الأشغال والتطوير العمراني ومجلس قطر للاستثمار الذي تقدر استثماراته بمليارات الدولارات في مختلف بلدان العالم. ويشرف الشيخ “تميم” على ملف مونديال العام (2022) الذي تستضيفه قطر، بوصفه رئيسا للجنة الأولمبية القطرية، كما عرف باهتماماته الرياضية، لا سيما في لعبتي التنس وكرة القدم، الشيخ “تميم” تلقى تعليمه في مدرسة بريطانية خاصة عريقة هي مدرسة “شيربورن”، وسار على خطى والده في الدراسة في الأكاديمية العسكرية الملكية في “سانت هيرست” التي تخرج فيها في العام (1998)
جيل الشباب
وشكل وصول جيل شاب إلى السلطة في هذه الإمارة الخليجية انتقالة جريئة، في سياق دول الخليج التي اعتادت على القيادات المعمرة والتراتبية القبلية والعائلية في أسرها الحاكمة.
ونقلت وكالة (فرانس برس) حينها عن مصدر خليجي مقرب من دوائر الحكم في قطر قوله: إن (تسليم “تميم” السلطة خطوة جريئة جدا)، ما قد يتسبب ببعض المخاوف لدى دول الخليج المتمسكة بقوة بتقاليد انتقال السلطة المحافظة، إلا أنها (مخاوف في الشكل وليس في المضمون). على صعيد الحياة الشخصية تزوج الشيخ “تميم” من امرأتين وله ستة أبناء، إذ تزوج عام (2005) من الشيخة “جواهر” ابنة الشيخ “حمد بن سحيم آل ثاني” سليلة إحدى العوائل ذات النفوذ في قطر، وله منها أربعة أطفال. وفي عام( 2009 ) تزوج من الشيخة “العنود مانع الهاجري” وله منها طفلان.
زيارة الأمير:
ويرى أستاذ العلوم السياسية بجامعة “بحري”الدكتور “حمد عمر حاوي”، أن زيارة أمير “قطر” تأتي في ظل (متغيرات) يشهدها العالم العربي، ما أحدث حالة استقطاب بين القوى الإقليمية في المنطقة، فيما يرى أستاذ العلوم السياسية البروفيسور “عبده مختار”، أن هذه الزيارة تأتي في ظل حراك سياسي كبير جداً يشهده السودان حالياً، الأمر الذي يبشر بحدوث تحولات سياسية في الساحة السوداني. ويضيف لـ”قطر” نفوذ ووزن وتأثير في السودان، ولها حضورها هنا سواء في المشهد الاقتصادي أو السياسي عبر ملف أزمة (دارفور). وفي هذا الصدد يضيف “مختار”نأمل أن تكون الزيارة تأكيداً لدور قطر في الوساطة السودانية وفي الأزمة برمتها، بحيث تشمل وساطة “الدوحة” كل الحركات المسلحة والقوى السياسية التي لم توافق حتى الآن على الحوار الوطني. ويرى أنه من الأفضل لقطر أن تكون حاضرة في ملف الحوار الوطني، بحيث تنسج نموذجاً لتجربة الحكم في السودان حتى لا يتعرض لمأزق كبير، وذلك بتشجيعها للتحول السلمي عبر الحوار الوطني فذلك احتمال سيعكس بعد نظر لـ”الدوحة”.