الحل الشامل.. بضاعة سوقها الـخارج والتقطتها المعارضة !
الدعوة لحل مشاكل السودان عبر الحوار السياسي الشامل لم تكن بالأمر الجديد، فقبل ذلك سبق أن دعت مجموعة الأزمات الدولية في تقرير لها العام الماضي إلى حل شامل وحكومة انتقالية في السودان عبر مفاوضات بين الحكومة والجبهة الثورية والقوى السياسية المعارضة والمجتمع المدني. والتقرير جاء تحت عنوان (توسع النزاع في السودان: الحرب في النيل الأزرق) بتاريخ 18 يونيو من العام الماضي، وكانت المجموعة قد دعت إلى حكومة انتقالية من المؤتمر الوطني والجبهة الثورية والقوى السياسية المعارضة والمجتمع المدني، الهدف منها تحقيق وقف إطلاق نار شامل ووصول المساعدات الإنسانية، وإلى وضع خارطة طريق لعملية سلام مستدام تستند إلى اتفاقية 28 يونيو 2011م وإعلان النوايا المشتركة للآلية الرفيعة للاتحاد الأفريقي 24 أبريل 2013م كأساس لفترة انتقالية تتضمن الاتفاق على نظام حكم يحل الأزمة ما بين المركز وبين الأطراف (دارفور، جنوب كردفان، النيل الأزرق، الشرق والشمال) والاتفاق على صياغة دستور انتقالي.
وفي توصيفها لأزمة الحرب في النيل الأزرق توصلت المجموعة إلى أن أي اتفاقية محلية (جزئية) لا يمكنها مخاطبة جذور النزاعات في النيل الأزرق التي لا تختلف عن النزاعات في الأقاليم الأخرى، وأكدت أن المطلوب (حل شامل، يتضمن إصلاحات واسعة في نظام الحكم عبر حوار وطني حقيقي لإنهاء النزاعات المتعددة، وبناء سلام مستدام).. واللافت في تقريرها كان رفض الحلول الجزئية– التي تتبناها الحكومة السودانية– وفي ذات الوقت رفض دعوة المعارضة لإسقاط النظام.
المبعوث الأمريكي الأسبق للسودان «ريتشارد ليمان» مضي بدوره في ذات الاتجاه عندما قال: (لقد آن أوان دخول السودان في حوار داخلي وعملية إصلاح حقيقي تفضي إلى قيام حكومة ديمقراطية عريضة تسعى إلى تحقيق مصالحة وطنية ذات مغزى بين السودانيين كافة. ولكن الكيفية التي يتم بها ابتدار تلك العملية تبدو في غاية الصعوبة كما كانت دوماً).
وأشار «ليمان» إلى أنه يوجد إجماع دولي متنامٍ بأنَّ جهود التوصل إلى حلول جزئية لنزاعات السودان العديدة التي تشمل الحرب المستمرة في دارفور منذ أكثر من عشر سنوات، والعنف المتجدد في جنوب كردفان والنيل الأزرق قد فشلت، وبدلاً عن ذلك هناك إدراك متعاظم– على الأقل- في أوساط المعارضين للنظام وبعض قوى المجتمع الدولي بضرورة إيجاد نهج شامل لحل تلك النزاعات، ولعلاج القضايا المهمة المتعلقة بالحكم وإدارة التنوع والمصالحة.
تقرير مجموعة الأزمات الدولية وإفادات «ليمان» تؤكد أن خطة المجتمع الدولي حيال الأوضاع في السودان هي الحل الشامل لكل القضايا، تشارك فيه القوى السياسية والحركات الحاملة للسلاح،
والآن من يدقق في التحولات التي طرأت على المستوى الداخلي وتمخض عنها استئناف الحوار بين الحكومة وبعض القوى السياسية، والمستجدات التي صاحبت أجندة جولة المفاوضات بين قطاع الشمال والحكومة الأخيرة التي وصلت إلى طريق مسدود، من يدقق يلاحظ أن هناك ثمة مؤشرات رابطة بين دعوة الحل السياسي الشامل وما يتم من حراك على الصعيد الداخلي والمفاوضات مع قطاع الشمال. فقبل طرح فكرة حل القضايا بصورة قومية من قبل الحركة الشعبية قطاع الشمال بأديس، كانت القوى السياسية قد سمعت بهذه الرؤية من رئيس الآلية الأفريقية رفيعة المستوى «ثابو أمبيكي» في زيارته الأخيرة للخرطوم، التي قيل إنها كانت بغرض التفاكر مع القيادة السودانية حول المفاوضات مع قطاع الشمال قبل ابتدار الجولة، لكن عملياً كان «أمبيكي» قد تحدث عن الحوار الوطني الشامل مع الرئيس «البشير»، ومن ثم القوى السياسية. وفي هذا الإطار، كان قد التقى لأول مرة الأمين العام للمؤتمر الشعبي دكتور «الترابي»، وعقب اللقاء قال «أمبيكي» إنه تباحث مع «الترابي» حول الحوار مع القوى السياسية الذي طرحه الرئيس «البشير»، وتعرف على رؤية الأحزاب، فيما أكد بدوره دكتور «الترابي» على ذلك حينما أبلغ الصحفيين أنهم معنيون بكل القضايا وليس الحوار الجزئي فقط، وأكد أن جلوس «أمبيكي» معهم يأتي في إطار التعرف على رؤيتهم.. وقد يكون هناك فهم لدى الأطراف الخارجية مفاده أننا نعرف المشكلة أكثر منهم، أما «أمبيكي» فقد كان لافتاً كشفه للصحفيين في هذا المؤتمر عن ترتيبات يقوم بها للقاء «جبريل إبراهيم» و»عبد الواحد نور» و»مناوي»، ما يشير إلى أن تفويض «أمبيكي» قد بدأ في الاتساع ليشمل قضايا المشكلة السودانية كافة، والتفويض بالضرورة مدعوم بالرؤية الدولية التي أصبحت ترى ضرورة الوصول إلى حل بين الفرقاء من خلال الحوار السياسي، و»أمبيكي» حسب اعتقاد كثير من المراقبين ينفذ سياسات دولية عبر المؤسسة الإقليمية، ومن غير المستبعد أن يكون «أمبيكي» في زيارته الأخيرة للسودان قد أطلع القيادة السودانية على هذه الرؤية، وبالمقابل قد تكون القيادة السودانية تحفظت عليها، وما يدل على ذلك حديث مساعد الرئيس بروفيسور «إبراهيم غندور» حينما قال في المؤتمر الصحفي الذي عقده بأديس بعد انهيار المفاوضات إن «أمبيكي» ليس مفوضاً للحديث عن الحوار السياسي الداخلي، وكذلك الوفد الحكومي، بينما كان «البشير» قد طالب «أمبيكي» بالإسراع في إنجاز مهمة التفاوض مع قطاع الشمال.. ووفقاً لما ورد من تصريحات، ولهذا السبب ربما فضل «أمبيكي» طرح هذه الرؤية بعد لقائه دكتور «الترابي» و»الصادق المهدي».. هذا إذا ربطناه بقبول المؤتمر الشعبي لدعوة الحوار مع الحزب الحاكم، نجد أن من الأسباب الجوهرية التي أقنعت حزب «الترابي» بالحوار هي الضغوط الخارجية في هذا الجانب، وبالفعل قد أقرت بعض قيادات الشعبي في أكثر من تصريح بوجود ضغوط خارجية تضاهي الضغوط الداخلية، وقد يكون «الترابي» التقط قفاز هذه الدعوة منذ العام الماضي، وقرر أن يجد لحزبه موطئ قدم في هذا الحراك مبكراً حتى يستطيع أن يكون فاعلاً وجاهزاً لهذه المرحلة التي قال عنها إن السودان يمر بطور جديد، والجاهزية ستمكنه من طرح أفكاره وأجندته ومقترحاته لتكون مضمنة في أجندة المرحلة الجديدة، خاصة وأن «الترابي» بعد لقائه «أمبيكي» ألمح إلى أن حزبه قدم مقترحات لـ»أمبيكي» لم يفصح الطرفان عنها، لكن حسب صحيفة (الشرق الأوسط) فإن الترابي يرمي إلى نقل طاولات الحوار إلى الداخل، بما فيها طاولة أديس أبابا والدوحة، وأكد أمين الأمانة الخارجية دكتور «بشير آدم رحمة» هذه الرؤية عندما قال لنا: (لابد من حوار داخلي بين كل الفرقاء بما في ذلك الحركات المسلحة، وإذا وصل الناس إلى اتفاق فسيكون هذا هو المطلوب، وإذا لم يصلوا يضمن حاملو السلاح مسألة الخروج الآمن).
إرجاع ملف التفاوض بين الحكومة وقطاع الشمال إلى مجلس السلم والأمن الأفريقي الذي قد ينقله إلى مجلس الأمن، يدل على أن القضية ستمضي في اتجاه رؤية الحل الشامل، الذي قد تتمخض عنه حكومة انتقالية يشارك فيها الجميع.