رأي

عندما يحلم المبدعون .. «التيجاني حاج موسى» نموذجاً!!

} وجدت نفسي مدفوعاً إلى الـ (كي بورد)، لأرد على ما طلبه مني الأستاذ المبدع والقامة السامقة “التيجاني حاج موسى”، من محاولة لتفسير أحلام تساوره في اليقظة والمنام.. يخفق لها قلبه وترتعش يداه المورقتان، وتمتلئ عيناه الطيبتان ببريق عجيب، ليشتعل بعدها بركان الإبداع داخله شعراً وفناً وموسيقى، وليصير علماً على رأسه نار.. وليت “الخنساء” لو علمت أن بكاءها لأخيها “صخراً” ومناحتها الشهيرة له ستصبح مورداً لقول سائر طغى على ما مثله من أقوال:
تبكي خناس على صخر وحق لها
إذ رابها الدهر إن الدهر ضرار
وإن صخراً لتأتم الهداة به
كأنه علم في رأسه نار!!
} هذه النار عندما يراها “التيجاني” فإنها ليست بالغريبة عليه، ولعلها تذكره بـ (صاج اللقيمات) الذي طالما شبع منه وأشبع أقرانه وأحباءه.. ولعلها نار القرى و(الدوكة) التي طالما أشعلتها أمه – وأمنا كلنا – الراحلة المقيمة في الدواخل الحاجة “دار السلام” التي كانت – عليها الرحمة – برداً وسلاما على “التيجاني” ابنها وأبناء الشعب كله الذين عرفتهم والذين لم تعرفهم.. وكانت ترفد في فلذة كبدها تلك القيم من كرم.. وأصالة.. وصلة رحم وأقارب.. وشهامة.. ونخوة ومروءة.. وكأنها تقول له في حلمه:
بوصيكم على الولد اليتيم ربوه
بوصيكم على السيف السنين اسعوه
بوصيكم على الفايت الحدود واسووه
بوصيكم على ضيف الهجوع عشوه
} ولا يقف الأمر بأحلام “التيجاني حاج موسى” عند هذا الحد، بل تلازمه وهو يمتطي سيارته وعندما يقف عند أحد الاستوبات يصادفه موتر (فيسبا) بقربه.. ويا له من (فيسبا).. وهنا يسرح بخياله في حلم يقظة وهو يتذكر أيام موتره الـ (فيسبا) الشهير الذي (ردف) خلفه عليه (نصف) مبدعي هذه البلاد ولحن وألف أجمل أغانيه على وقع (الابنصات) و(الفرامل).. ويهوم في عوالم بعيدة ويغمض عينيه على حلم كبير قبل أن يستفيق على صوت غاضب:
(الاستوب فتح! ما تمشي يا زول إنت نمت ولا شنو)؟!
} ويمضي بعدها شاعرنا الحنذيذ بعيداً في أعماق مدينة الأسمنت وهو صاحب الشعور الرقيق والحس البديع. وتلاحق الأحلام “التيجاني” عندما يغفو نهاراً لفترة وجيزة.. لتمر في عقله صور ذهنية للموت والفراش والكفن ولون الدبلان والواسوق، ويعرج على ذكرى من رحلوا عنا إلى عالم الملك والشهادة مخلفين ذكراهم العطرة.. ويحلم “التيجاني” بالألم الذي شعر به عندما احتك به زبانية مايو يوم ألف أغنيته الأساسية: (خمسة سنين عذاب خمسة سنين ألم).. وصادف ذلك ذكرى انقلاب مايو الخامسة في العام 1974م وقام المعارضون بتحريف ذلك:
كملتوا الدقيق والجاز والفحم
لا فضل رغيف لا فضل لحم!!
وهنا يستأذن “التيجاني” بأدبه الجمّ صديقه العزيز ومؤدي الأغنية في أن تصبح:
ليه كل العذاب ليه كل الألم
بزرع في السعادة وحصادي الندم
ويسمعها من رفيقه الراحل المبدع “زيدان إبراهيم”.. وآه من “زيدان” لـ “التيجاني” وهو يكاد يسمع صوته كلما مر بالعباسية، ويكاد يضحك معه عندما يزور الحاج يوسف.. ولكم بكاه “التيجاني” في أحلامه وسالت دموعه حتى ملأت وسادته ولا أظنها ستجف أبداً أبداً!!
} ونعرج كذا مع أستاذي “التيجاني حاج موسى” لنراه حالماً بالأطباء والمستشفيات، وهنا يتبادر إلى ذهنه أصدقاؤه من المرضى من المبدعين وهم يغنون ويتألمون مثل عذاب “برومثيوس”.. ويبرز منهم الفنان الهرم “عبد الوهاب الصادق” وهو يصاب بسكتة دماغية أفقدته القدرة على النطق.. ويتألم “التيجاني” لذلك.. ولكن حلمه ينتصر له ليرى “عبد الوهاب” في كامل حلته وهو يغني في حفل بالحصاحيصا:
من بعد ما فات الأوان الليلة جاي بتعتذر
وترجع أيامنا الزمان من وين أجيب ليك العذر
فرحت بيك مديت دروب الريد سماح
وغزلت ليك طيبة مشاعري غطاء ووشاح
لكني يا ضيعة رجاي
رديتني مكسور الجناح
وسقيتني بعد الحلوة مر!
} ويخرج بعدها “التيجاني” وهو لا يزال يحلم من المستشفى ليجد أمامه مدرسة أطفال ومن فوره يتذكر:
شوفوا دنيتنا الجميلة
بأنهارها وبأشجارها الظليلة
يا هي دنيتنا الجميلة
} وهنا وكأنه يتخيل طفلاً صغيراً اسمه “محمود” وهو يغنيها له.. لله درك يا “تيجاني” ومن أين لك بكل هذا الإبداع ليغني لك الكبير والصغير، وليطرب لك الأكمه والأبرص، وليسمعك الأصم ويراك الأعمى؟!
ولكنه معدن الإبداع الأصيل الذي روته داخلك أوراد الصوفية وصوت الطار والجرس.. وأنت تسمى على سيدي “أحمد التيجاني” رضي الله عنه، وتشنف أذنيك أصوات إبداع أهل الله في كل حضرة وعرفان، وتسوح كل ليلة بعيداً هناك في أم القرى:
جيلاننا قد شد نحو قيامنا الخيلا
وعجنا في سياخات إلى أم القرى ليلا
عنكم نحن ما ملنا ولم نعهد بكم ميلا
وهذي شمسكم دارت فلا حر ولا ظلا
} ولقد رأيتك ذات يوم تحلم وأنت تأكل (كسرة بزيت السمسم) والطماطم بقرب مستشفانا.. وأنت تجول بنظرك في مرضانا وتحلم بهم وكأنهم يقولون:
مرة شافت في رؤاها
طيرة تاكل في جناها
حيطة تتمطى وتفلع في قفا
الزول البناها
قالوا جنت ما براها!!
} من بنظرك يا “تيجاني” قد جن حقاً في هذا الزمان المجنون؟! وليت “النيسابوري” كان حياً بيننا قبل أن يؤلف كتابه (عقلاء المجانين)، لكان أحرق كتابه وانضم إليهم.. ولعلك تدرك السبب يا صديقي!!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية