(إنت منو) .. من أين أتى هؤلاء؟!
} سيدة في نهاية العقد الرابع، تتقاطع تقاسيم وجهها بين الفقر والرهق مع لمحة من ملاحة كادت تقضي عليها ضربات الزمان القاسي.. أرملة وتعول ثلاثة أطفال.. انعدم دخلها وتكاثرت متطلبات أبنائها، وبعد رحلة بحث طويلة عن أي جهة تأخذ بيدها أغلقت أمامها كل الأبواب، وأخيراً قررت الذهاب إلى ذلك المسؤول الولائي الرفيع، وعند استقبال مكتبه منعها أفراد الحراسة من الدخول، فثارت فيهم واحتدم النقاش بينهم وبينها، وفي تلك اللحظة دخل عليهم رجل أعمال شهير وشاهد الموقف، فأخذها جانباً، ودار بينهما حوار، ثم اصطحبها إلى سيارته بالخارج وأخرج منها مبلغاً محترماً وضعه بين يديها.. فارتفعت حاجباها من الدهشة ثم باغتته بسؤال: (إنت منو)؟! فأجابها: (أنا فلان الفلاني).. فعبرت عن فرحتها بزغرودة ضجت أمام المبنى الحكومي، فتجمع المارة، وكانت قصتها حديث المدينة منذ ذلك اليوم وإلى يومنا هذا.
} بالرغم من كل الظروف القاسية، كان وسيظل مجتمعنا يضج بأمثال ذلك الرجل الخير (عشاء البايتات).. (مقنع الكاشفات).. (أسد الهجعة).. (دابي الليل).. ولكن للأسف الشديد نفقد الآلية المنظمة التي تترجم تلك الأقوال إلى أفعال لنقضي على الفقر والحاجة والعوز.
} المكان نهاية شارع البلدية.. الزمان الواحدة صباحاً.. وتحديداً جوار سور المسجد الكبير بالخرطوم.. العشرات من الرجال والنساء والأطفال يفترشون الأرض ويلتحفون السماء.. وعند مشاهدة الموقف تتطاير الأسئلة دون مجيب على شاكلة: من أين أتى هؤلاء؟ هل كان مخاض المجتمع السوداني عسيراً إلى هذه الدرجة التي أفرزت فئة كاملة فاقدة للرعاية؟ هل المحلية التي تجبي آناء الليل وأطراف النهار لم تتوقف عند محطتهم؟ وهل هناك تنظيم أو حزب أو نقابة أعظم من الإنسانية لتوفر لهم حقوقهم؟ وماذا يفعل أي منا إذا وجد نفسه وأبناءه إلى جوارهم يوماً؟ وأخيراً ما هي الفتوى التي سيجدها ذلك العالم الجليل الذي يغض الطرف عن هدر كرامة الإنسانية ويلهث خلف التبغ و(الشيشة)؟!
} هذه الفئة من فاقدي الرعاية ليس من بين تطلعاتهم أو مطالبهم حل أزمة المواصلات، أو تجديد شبكة مياه الشرب أو إنشاء المزيد من الأنفاق والكباري، لذلك فإنه من البديهي أن مطالبهم بسيطة ويتمتع كل منا بها.. إنها المأوى الطبيعي والآمن (البيت والأسرة) وهي الخطوة الأولى لبناء مجتمع معافىً وأمة متحضرة وحاضرة.
} السيد د.”عبد الرحمن الخضر” والي ولاية الخرطوم: نعلم ما تقوم به الولاية من أجل محاربة الفقر ودعم الأسر الفقيرة مادياً وعينياً والسعي الدؤوب لتوفير فرص العمل للشباب.. فأين موقع هؤلاء من تلك البرامج؟
} السيد الوالي.. إنهم رعاياك وسوف تسأل عنهم يوم نقف جميعاً بين يدي الله قال تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا). صدق الله العظيم