السودان لأول مرة بعيداً عن مصر
اعتدنا منذ مطلع الخمسينيات أن يكون للتطورات السياسية في مصر صداها في السودان. عندما وقع انقلاب في السودان 1958 والسبب في تأخر انقلاب السودان كل هذا الوقت، أنه في عام 1952 لم يكن قد نال استقلاله الذي ناله عام 1956م. وكان انقلاب “عبود” بلا هوية سياسية. جاء “نميري” 1969م بانقلاب مقلداً للنظام في مصر، إذ كان انقلاباً اشتراكياً منذ اللحظة الأولى، بل وأقام تنظيماً هو في الحقيقة صورة طبق الأصل من النظام الناصري في مصر، إذ قام الاتحاد الاشتراكي وتحالف قوى الشعب العاملة. وتطورت الأمور في هذا الاتجاه إلى أن وصلت إلى شكل من أشكال التوحد بين النظامين في مصر والسودان. وصار النظامان ضمن إستراتيجية واحدة في عهد “السادات” تحت الرعاية الأمريكية.
لأول مرة أحس أن الوضع في السودان يخرج عن المدار المعتاد منذ أوائل الخمسينيات. بينما يتجه النظام في مصر نحو تشديد قبضته على السلطة على أساس منع الفوضى ومنع هيمنة الإخوان، نجد أن النظام في السودان يمضي عكس ذلك. فهو قد اختار أن يكون في خدمة التيار الإسلامي ولكنه يأتي في إطار بسط الحريات العامة. وبينما النظام في مصر يرى أن سيطرة الدولة على أجهزة الإعلام ضرورية للمحافظة على الأمن والاستقرار، نجد أن التجربة الطويلة لحكومة الإنقاذ أوصلتها إلى أن إطلاق الحريات العامة هو الأفضل، أي عكس ما يحدث في مصر التي لها ظروفها الخاصة التي تحدد شكل التعامل بين الدولة والشعب.
كل شيء في مصر يشير إلى أن المشير “السيسي” سيصبح رئيساً للجمهورية بأغلبية ساحقة لن تقل عن ثمانين بالمائة، بالنظر إلى الحملة الإعلامية القوية التي تؤيد ترشيحه. وتجربتنا مع مصر تقول إن كل ما تؤيده الجماهير والجيش سيفوز في أي انتخابات.
في هذا التوقيت اختار “البشير” بسط الحريات العامة لأن تحليله للأمور أوصله إلى أن هذا عصر الجماهير، وأن القبضة الحديدية ربما وفرت الأمن للنظام داخلياً. لكن الوضع الآن أن ذلك ليس كافٍ فالآن هناك منظمات حقوق إنسان تراقب كل شيء، وتتخذ قراراتها حسب وضع هذه الحقوق في كل دولة. وقد تعرض السودان للكثير من المضايقات بسبب ملاحظات هذه المنظمات، لكنه لم يبالِ بها إلى أن اقترب الوضع من المقاطعة الكاملة من جانب الإخوة في أفريقيا.
ربما يرى البعض أن “البشير” غير جاد في دعوته لإطلاق الحريات في هذا التوقيت عكس مسار الأمور في مصر. وهؤلاء لا يلاحظون أن “البشير” أمضى في السلطة أكثر من عشرين عاماً جرب خلالها كل الأساليب، وتوصل أخيراً إلى أن أفضلها هو إطلاق الحريات، وبالتالي فالتجربة السودانية تقوم على خبرة طويلة في السلطة والعلاقة مع العالم الخارجي. وقرار إطلاق الحريات لم يأتِ فجأة بل أتى بعد دراسة كل النتائج المترتبة عليه، ووجد ترحيباً من كل ألوان الطيف السياسي، مما يؤكد أنه القرار الصحيح. مصر تبني قراراتها بناءً على خبراتها وتجاربها وكذلك السودان. انتهى العهد الذي كان فيه قرار السودان صدى لما يحدث في مصر.
> سؤال غير خبيث
ألا توافق أن “البشير” سيحصل على تأييد (90%) بعد إطلاقه الحريات؟