أمريكا والسودان .. هل من سبيل؟
ظلت العلاقات الأمريكية السودانية في حالة موات وقطيعة من طرف واحد هو الولايات المتحدة الأمريكية منذ إعلان قوانين الشريعة الإسلامية في سبتمبر – أيلول 1983 في عهد المشير “نميري”، ثم تراكمت الأسباب والدواعي لذلك بحدوث التغيير في يونيو – حزيران 1989 وصولاً إلى أحداث سبتمبر – أيلول في عام 2001 التي اسُتهدف فيها مبنى التجارة العالمية في نيويورك، فانهار جملة واحدة، ومبنى وزارة الدفاع في واشنطن الذي تدمر جزء منه. وكانت النتيجة أمنياً ودفاعياً أُلقي بها على كاهل جماعة (القاعدة) برئاسة السعودي “أسامة بن لادن” وما يدعى (الإسلام السياسي) على نحوٍ أوسع، أو الإسلام حقيقة، فكانت حرب الرئيس بوش (الابن) على ما يسمى الإرهاب التي كانت لها آثار ونتائج مختلفة بعضها عسكري وبعضها اقتصادي وسياسي ودبلوماسي.
اليوم بعد مرور أربعة عشر عاماً تقريباً على (الحرب على الإرهاب)، وقد كانت نتائجها كارثية على الشعوب العربية والإسلامية التي استُهدفت – وذلك لا يحتاج إلى تفصيل – كان حظ السودان من ذلك هو تغليظ العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية والسياسية.. وأكثر من ذلك العمل على فصل جنوب السودان عن شماله بعد دعم حرب طالت لعشرين عاماً أو تزيد.. ثم تشجيع ودعم الجماعات المتمردة في دارفور وجنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان.
ووصلت القطيعة الدبلوماسية مع السودان حدها يوم هَمّ الرئيس السوداني “عمر البشير” بحضور الجمعية العمومية (68) للأمم المتحدة في نيويورك، بصفة السودان عضواً في الأمم المتحدة، وحضور رئيسه الجمعية في نيويورك مكفول بحسبان العاصمة التجارية “نيويورك” هي دولة المقر باتفاق شمله ميثاق الأمم المتحدة، ولكن الإدارة الأمريكية (ماطلت) وتراجعت أخيراً عن منح الرئيس السوداني ووفده المرافق تأشيرة الدخول، بدعوى المقاطعة الدبلوماسية بين البلدين.
تلك مقدمة خفيفة لما نحن بصدده بعد حدوث بعض المتغيرات والمؤشرات التي تدعو للسؤال: العلاقات بين أمريكا والسودان.. هل من سبيل؟ وهو سؤال في محله وله ما يبرره.. ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية تواجه جملة صعوبات في علاقتها مع جمهورية السودان ورفعها العصا الغليظة في وجه الشعب السوداني وليس النظام الحاكم وحده.
ومن هذه الصعوبات:
– أولاً: إن سياستها في هذا الخصوص ضارة بالنسبة لها وربما أكثر من السودان الذي ظل يمضي في طريقه وينجز، وإن كان ذلك ليس خالياً من أثر.
– ثانياً: ظهر لها بعض الأخطاء الكبيرة كالعمل على انفصال الجنوب الذي ظهرت له الآن مشكلاته التي من أوضحها عدم الاستقرار أو تحقيق أية مكاسب للمواطن الجنوبي.
فانفصال جمهورية جنوب السودان عوضاً عن أن يكون عصياً وأداة ضغط وإضعاف لجمهورية السودان.. صار ذلك غير ما ينتظر منه اليوم، حيث هناك اتفاق تعاون مشترك وتفاهم بين الدولتين، وعندما حدث ما حدث مؤخراً من حرب واقتتال كان الأمل في قيام الجمهورية السودانية بدور أكبر في السلام ورأب الصدع في جمهورية جنوب السودانظ.. وما يتوقعه مستقبلاً من علاقات تكامل منافع يبدو أكبر.. فالسودان صار ملجأ للاجئين من الجنوبيين ومعيناً للدولة الجنوبية في مشكلاتها.
وغير هذا هناك الكثير مما يقال في شأن السياسة والعقوبات الأمريكية ضد السودان بحسبانها عامل (فقد) وليس (كسباً) للإدارات الأمريكية الجمهورية والديمقراطية. وذلك ما شهد به أهلها ومن لهم دورهم في التشريع والدبلوماسية أمريكياً، فضلاً عن الجهات الأخرى من حلفاء ومؤسسات إقليمية ودولية.
ويمكن الرجوع هنا إلى ما قاله السفير الأمريكي المستقيل “ستافورد” عن السودان وشعبه، فقد أشاد بالشعب السوداني وحالة السلم والكرم والتعايش فيه والقيم والعادات والتقاليد السودانية التي بهرته وانفعل بها لدرجة أنه قال: (إن السودان هو وطنه الثاني.. بعد الولايات المتحدة الأمريكية..!)
وليس السفير “ستافورد” وحده في هذا الخصوص، بل هناك رجل الكونغرس الأمريكي السيناتور “سوني لي” الجمهوري الذي زار البلاد الأسبوع الماضي بغرض الاستثمار في النفط والغاز والتكرير، وقابل عدداً من الوزراء والمسؤولين في ذلك الشأن، وذكر عبر الصحف:
– إن السودان بلد مستقر وشعبه كريم لا يستحق العقوبات.
– وزاد على ذلك أن العقوبات أضرت بالسودان وبالولايات المتحدة ورجال الأعمال هناك.
إن إشارة السيناتور “سوني لي” إلى أن العقوبات أضرت برجال الأعمال والمؤسسات الاستثمارية في الولايات المتحدة تبدو في محلها تماماً ولها شواهد وعلاقاتها الدالة، فقد كان خروج شركة (شيفرون) عن حقل الوحدة في 1984 خسارة كبيرة للشركة التي سبقت غيرها لذلك، وفتح انسحابها المجال إلى أن يلج آخرون حيز الاستثمار في استخراج النفط السوداني، ومنهم دولتا الصين الشعبية والهند وغيرهما من البلاد الآسيوية مثل ماليزيا والفلبين وأخيراً الاتحاد السوفيتي وبعض البلاد الأوروبية. وهؤلاء جميعاً ممن يعدون منافسين سياسياً واقتصادياً للولايات المتحدة الأمريكية.. إلا أن ما يثير (الاندهاش) في هذا الشأن هو أن حلفاء أمريكا في دول غرب أوروبا صارت لهم شهاداتهم وتحركاتهم لمصلحة جمهورية السودان.. والإحالة هنا إلى الاتحاد الأوروبي الذي كانت له الأسبوع الماضي بعض الإفادات التي من أشهرها الإفادة التي ألقى بها وذكر فيها أن السودان دولة آمنة وستوسع أوروبا التعاون التجاري معها.. وأكثر من ذلك جاء في الأخبار أن الأمم المتحدة وثقت لتورط متمردي دارفور في الحرب بجنوب السودان.. وهذه شهادة لها معناها في ذلك الخصوص إذ ربما أدى هذا إلى فجوة وخصوصية في العلاقات بين الطرفين.. وبذلك تفقد الجماعات الدارفورية المتمردة مراكز مددها وحراكها ونشاطها العسكري.
هذا كله يحدث الآن نتصور أنه سيؤثر ربما ايجاباً على العلاقات الأمريكية السودانية التي ظلت على مدى أربعين عاماً تقريباً في حالة عداء دبلوماسي وسياسي واقتصادي.
فالسيناتور الجمهوري الذي زار البلاد مؤخراً بغرض الرغبة في الاستثمار وقال ما قال من شهادة حق بشأن السودان وأثر المقاطعة الاقتصادية عليه وعلى الشركات الأمريكية في وقت واحد – وهو شخصية تشريعية جمهورية واستثمارية – سيوصل رسالته لا محالة إلى زملائه في الكونغرس وإلى الرأي العام الأمريكي بشكل عام، مما يؤدي إلى أن يعيد الآخرون في المجتمع الأمريكي حساباتهم، فالمنافسة بين الولايات المتحدة والاتحاد الروسي وجمهورية الصين في السياسة والاقتصاد وكسب الآخرين في الدول الأفريقية – تحديداً – سيجعل القطب الأمريكي يعيد حساباته ولا يؤسسها كلها بعد الآن على أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وما عرف بالحرب على الإرهاب واستهداف المسلمين والبلاد الإسلامية.
والحال كذلك، وكما نتوقعه تبعاً لما ذكرنا من تفاصيل في هذا (المشهد السياسي)، نتصور أن هناك (سبيلاً) ربما لتنقية العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بين أمريكا والسودان.. ذلك أن المتغيرات والشواهد تقول بذلك. وعلى الله قصد السبيل الحسن.