«ابن منظور» السوداني!!
} تمثل القواميس والمعاجم رافداً أساسياً معيناً لكل من أراد معرفة لغة من اللغات، كما تتميز بصعوبة إنتاجها وجمعها حتى قيل إن كل من يؤلف كتاباً يتمنى الحصول على الإعجاب والثناء بعده، أما من يخرج قاموساً فحسبه أن يتعرض لأعلى درجات النقد والامتعاض مما ذهب إليه في معجمه!!
} والطبيب السوداني يجد نفسه اليوم محاطاً بكثير من اللغات واللهجات في أثناء عمله، حيث تمثل المستشفيات والعمل في أماكن مختلفة من السودان الذي (فضل)، الكثير من الاندماج والتعامل المباشر مع تلك المفردات والكلمات، التي يتطلب الإلمام بها قدراً عالياً من معرفة الثقافة المحلية وطبيعة عيش الناس والطرق المختلفة للتعبير اللفظي عندهم. هذا إن أخذنا في الاعتبار انحدار مستوى الثقافة والاستنارة عموماً في الأجيال الحالية، التي التقى جيل البطولات فيها بجيل التضحيات، حتى أنتج أفراداً لا يعلمون متى استقل السودان (هو فعلاً استقل)؟!، ولا يعلمون عن “عثمان دقنة” إلا مقدار علمهم عن (النانوتكنولوجي)، وما خفي كان أعظم.
} لذا تجد طبيب اليوم من أصحاب (المصارين البيضاء) التي تسر الناظرين، والطبيبات الفاقع لونهن اللائي ولم (يقششن) الأرض ولم (يسقين) الزرع، تجدهم فاغرين أفواههم عندما يسمعون شكوى إحدى الخالات التي قدمت من (الضهاري) إلى العاصمة طلباً للعلاج وهي تقول: (والله يا ولدي عندي وجع في نافوخي، وعيوني مطششة، وخشمي جردقة، واستلهابات في جسمي كلو، وشحة في صدري، والليل كلو عيني لاجة، والنهار كلو الوجع مخليني أزوزي، وكرعيني ينتحوا، وبطني ماشة، وراسي يقول دل دل… وغيرها)!!
وهنا لا يجد من يعجز عن تفسير تلك المفردات المحلية إلا أن يطلب المساعدة من (أهل الذكر).. (لو لاقاهم طبعاً).. أو أن يجتهد في معرفة أقرب المعاني، وفي هذا تأتي خطورة التشخيص الخاطئ، وبالتالي الأخطاء الطبية التي قد تودي بالمريض أو المريضة، وتجعله أو تجعلها (في خبر كان)!!
} كما قد يندهش الطبيب من جيل الـ (جلاكسي) عندما يصرخ في وجهه أحد الأعمام وهو يقول: (النار باقة في جتتي، وعندي فاق ودايماً حاسي بغنطسة وزي التقول بطني متوربة.. أو كما قال)!! وكلها من لسان المرضى في السودان.
} ومن هنا تنبع أهمية طب المجتمع والإقامة الريفية لطلاب الطب في مختلف البقاع، للتعرف عن قرب على تلك الاتجاهات اللغوية والتعامل معها بحرفية مستقبلاً، كذلك إعطاء الأسئلة للمريض والمرافق بلغة مبسطة وسهلة الفهم حسب الواقع والظروف المحيطة بكل حالة على حدة.
} ولا ينطبق هذا القول على المرافق والمريض فقط، بل يمتد ليشمل الأطباء أنفسهم عند الحديث في أوقات الراحة إن وجدت، التي تشمل الكثير من المصطلحات العلمية المعتمدة التي تم تعريبها وسودنتها، وقد تثير استغراب الشخص العادي ويظن بالأطباء والطبيبات الظنون، ومنها ما يحضرني عندما كان بعض الأطباء يتناولون في الاستراحة حالة أحد المرضى الذين توفاهم الله بعد إحدى العمليات الجراحية (الضاربة) حيث قال أحدهم: (أمبارح البيشنت باصا بعد ما كتس بينا لأنو فلان داك هبلس)!! فما كان من أحد المرافقين إلا أن علّق بعفوية: (أنا ما قلت ليكم الدكاترة ديل جنوا عديييل وبقوا ينضموا كُتر)!!
} ونتمنى للجميع حياة طيبة، وإن شاء الله ما فيها (انكرابات) ولا (اندرابات).. وأن لا (تنشل) الأجسام فيها من العرق.. ولا تقول الأعضاء (تح تح) من التعب.. وأن لا تكون فيها (وِردة) بالليل من الحمى ولا (فرة) بالنهار من الألم.. وأن تكون السخانة في الجيوب فقط ولا تمتد لتشمل الأجساد التي تكفلت شمسنا التي أصبحت شمسين وثلاث وأربع بإنضاجها وعمل (ساونا) مجانية لها فكنا كـ”صلاح”:
حرقتني بالحرارات الشموس
وشوتني كقرابين
على نار المجوس
فإنها منها
مثل عود الأبنوس!!