إلى متى الحيل؟!
} جأر “عتباني” بالعتاب على من زاملهم قبل الحكم والسلطة، وزاملهم وهو قادم معهم على ظهر الدبابة واستولى معهم على السلطة، وزاملهم وظل معهم على سدة الحكم ربع قرن من الزمان، وتقلب في المواقع والمناصب، ثم فارق بني قبيلته نافضاً يديه منهم، شاقاً هو ومن معه طريقاً جديداً أسموه (الإصلاح الآن). وكما هو معلوم فإنه يصعب على العطار إصلاح ما أفسده الدهر، إن كان هو عطاراً!! لذا رأيت بعد أن أدلى كثيرون بدلوهم في هذا التطور، وهم بين مؤيد وبين رافض، أن أخوض في غمار ما طرأ من صحوة ضمير (بعد فوات الأوان) منه ومن غيره، رغم أن أكثر من صحيفة قد تحفظت على نشر الموضوع في حينه لدواعي تعرفها، لذلك تأخر رأيي لكنه يظل صالحاً في ظل دعوات الإصلاح؟!
} وتستحضرني في هذا المقام مقولة مصدرها “محمد عابد الجابري” وردت عنه في مؤلفه: الديمقراطية وحقوق الإنسان سنة 1997م حيث يقول: عندما يتعلق الأمر بالميدان البشري، ميدان الاجتماع والاقتصاد والسياسة والثقافة، فإن النتائج يجب أن لا تخضع للمقدمات وحدها، بل يجب أن تكون غاياتٍ وأهدافاً؟! ونحن نقول: حقاً يحتار المرء كثيراً أمام فهم أسلوب وطريقة الشعب السوداني العظيم الذي يتعاطى السياسة ويفهم في السياسة، ويتحدث سياسة ويتابع أخبار السياسة ويحاول فهم ما يدور ويجري، وهى محمدة له دون شك، للدرجة التى جعلت أهل الخليج قاطبة وخاصة السعودية يطلقون عليه بلد السياسيين!! ولكن ومع اعترافي بأن درجة الوعي متوافرة عندنا بدرجة ملحوظة رغم الدرجة العالية من الجهل والأمية، فإن الكثيرين وأنا منهم يحتارون أمام اندياح كثير من قطاعات الشعب أمام متغيرات مفبركة ومصطنعة وهنا تكمن المفارقة!!
} جاءت الإنقاذ عبر انقلاب عسكري في (30) يونيو 1989م، فوجدت ترحيباً واستقبالاً جماهيرياً، قبل أن تتضح معالم وسمات قادة الانقلاب ولا خطهم السياسي، مع الإقرار بفشل “الصادق المهدي” بحماية النظام الديمقراطي وهو على سدة الحكم، رغم ما تنامى لمسامعه من أخبار وجود أكثر من انقلاب، ورغم مذكرة القوات المسلحة الشهيرة، حيث سد إحدى أذنيه بطينة والأخرى بعجينة، فحدث ما حدث، وها هو يتحدث منذ أكثر من خمس وعشرين عاماً على أمل استعادة ما سُلب منه. وربما ينطوي أسلوبه على مناورة لذر الرماد فوق العيون، أو محاولة التكفير عن سلبيته في ظل مشاركة أحد أبنائه في السلطة مساعداً لرئيس الجمهورية.
} والشعب يصدق والشعب تنطلي عليه الحيل ويبتاع كل ما يسوق له في سوق السياسة، ويحق لأمثالنا أن يتساءلوا: هل لدى “الصادق” بقية من عمر ليعوض الشعب السوداني عما لحقه وعما ضاع من عمر، رغم نفاذ صبر هذا الشعب في ظل ضائقة معيشية خانقة؟!
} نعترف بأن معظم الشعب مع الديمقراطية وضد الطائفية والديكتاتورية والشمولية، ولكنه يتخوف من عودة هذا أو ذاك من الذين خبرهم جيداً وأسلموه لليأس ولم يراعوا فيه إلاً ولا ذمة، بحيث لا تعود الحلقة المفرغة ولا الدائرة الجهنمية (ديمقراطية/ ديكتاتورية). جاءت الإنقاذ ومن بين طاقمها “غازي” و”الكودة” و”رزق” وغيرهم، وكلهم وعلى مدى عمر الإنقاذ، تقلبوا في شتى المناصب والمواقع والقيادات، وقادوا السودان وشعبه إلى ما هو عليه الآن.
} وأترك للقراء الكرام تشخيص الحالة وأتبرع من جانبي مستأذناً بالقول بأن البلاد دخلت في نفق مظلم ومتاهة ً وشظف عيش وضنك ومعاناة وتدهور، وسادت لغة الحرب والاحتراب والإقصاء في كثير من أجزاء الوطن الغالي، للدرجة التي استقطعت مساحة (700) ألف كيلو متر من مساحة السودان، وهي ليست ملكاً للإنقاذ ولا للحركة الشعبية.. و”غازي” جزء لا يتجزأ من الذي حدث، هو ومن معه من بقية الإصلاحيين(!!) وبعد ربع قرن من الزمان تعلوا أصواتهم وتصحو ضمائرهم وتنطق ألسنتهم؟!
} شخصياً، اتفق معي البعض أو اختلف، أرى أنها خيوط لعبة سياسية متقنة الإنتاج والإخراج والتسويق، أو هي عقدة ذنب، ولكن بعد فوات الأوان ومن جرب المكروه عمداً دون شك يتعاطى الحرام.
} والمحترفون يرفضون هذه الوجبة المغلفة لأنها عسيرة أن تهضمها أمعاؤهم، ويعرفون تماماً أصابع تحريك خيوط دمي المشهد السياسي وشخوصه، لذلك يأخذون حذرهم. وأقول حذاري أن نؤكل يوم أكل الثور الأبيض، مع العلم بأنه ليس كل ما يبرق ذهباً؟!