أخيره

سيكولوجيا الأساطير .. «محمود عبد العزيز» نموذجاًَ!!

الأسطورة في معناها العام عبارة عن شائعة أو اعتقاد سرى به الركبان، وصار مكوناً للعقل الجمعي والتراث النقلي الشفاهي أو الكتابي، وذلك لدى مجموعة من السكان في نطاق معين، يكبر أو يصغر حسب الامتداد الديموغرافي، وذلك وفق معايير الانثروبولوجيا الاجتماعية.
وقد ارتبطت الأساطير عموماً وغالباً بأساطير الآلهة قديماً، ولم يلعب فيها البشر إلا أدواراً ثانوية للغاية، لم يتعد معظمها دور النقل والأخبار، وهذا الارتباط يفسر القداسة التي تحيط بالأساطير إلى هذه اللحظة، وبالتالي يمجدها ويؤمن بها البشر حتى وإن كانوا يعتقدون بخلاف ذلك.
{ رموز فنية
وقد حظي المجال الفني والفنانين بنصيب وافر من هذه الأساطير، فنجد في النحت “فدياس”، وفي الطرب “مانيا”، والجمال “فينوس”، واللهو “باخوس” وغيرهم. ولعل ارتباط الفن ينبع من أنه في تعريفه البسيط ما هو إلا (التعبير عن ملكة التعبير)، وبالتالي ارتبط الفنانون والمبدعون على جميع الأصعدة بالأسطورة الفنية في جميع أنحاء العالم، مثل “بوب مارلي” في الموسيقى و”شارلي شابلن” في التمثيل على سبيل المثال.
{ أسطورة (الحوت)!!
وفي السودان فإن أسطورة الراحل “محمود عبد العزيز” قد بدأت في التكون منذ الطفولة، حيث وضح الاستعداد الفطري للإبداع وظهور المواهب في برامج الأطفال.. وهذا يبين أثر الجينات الوراثية ذات الصبغة الجينومية للتألق والظهور في المستقبل، وأيضاً تعزيز الثقة بالنفس التي تمثل ركيزة مهمة للنجاح وإحداث الفارق، كما تقضي على مكامن الخوف والتوجس والرهبة من الجمهور، الذي يعول عليه كثيراً في إبراز وإيجاد الأساطير الفنية.
ورفدت أسطورة “محمود” أيضاً الألقاب الكثيرة التي أطلقها المعجبون والمعجبات من شاكلة (الحوت) و(ملك الجان) و(حودة) وغيرها، مما جعل هناك انجذاب غريزي وفطري نحو صاحب تلك الألقاب المبهرة، كما شكلت ضغطاً نفسياً على المنافسين، أدى إلى أحجامهم عن التنافس، وذلك للمد الكبير والشعور بعدم القدرة على الصمود، وبالتالي أصبحت الساحة ممهدة للانتشار أكثر وأكثر، وعززت الإيمان بالحظوظ والدافعية الكبيرة نحو تقديم إنتاج غزير ومتجدد.
وقدم “محمود” نفسه كشاب سوداني عادي وبسيط يسكن في حي شعبي، ويعاني في فترات من حياته من ما يعانيه معظم الشباب من الشد والجذب والعطالة أحياناً، ويعاني الإخفاق والعلو والهبوط، وتنتاشه الظروف التي يمر بها الكثيرون، وها هو ينجح في النهاية، وهذا خلق منه مثالاً يحتذى للشباب المحبط و(المدبرس)، الذي يعيش في ظل متوالية من الإخفاقات والمرارات على صعيد الأسرة والمجتمع والعمل والدراسة والأوضاع، والظروف غير المواتية التي عصفت ولا تزال بمستقبل وحاضر الكثيرين والكثيرات!!
ولم يكتف (الحوت) بذلك، بل قدم نفسه كمنهج وطريقة للشباب للإيمان بها في ظل كفر الكثيرين بالأحزاب القائمة والزعماء التاريخيين الذين أكل عليهم الدهر وشرب ونام أيضاً!! وانفصلوا عن الواقع، فلم يحس بهم أحد ولم يشعروا هم أيضاً بأحد سوى أهلهم وآل بيتهم، وانحصر همهم في (من يخلف من).
وكان طبيعياً ظهور (الحواتة) الذين لهم لغتهم وإشارتهم ونشيدهم، وبالتالي أشبعت أسطورة (الحوت) الرغبة في الإيمان بشيء أياً كان، والشعور بالراحة النفسية لذلك الانتماء، وتغذية روح الجماعة والاتصال التنظيمي، إن صح التعبير، عبر الفضاء المكتوب أو الإسفيري أو الجماهيري أو غيره، وخلقت للجمهور زعيماً وملكاً يسمعونه ويغنون معه ويزورونه ويأخذونه بالأحضان، ويأكلون معه ويشعرون بألمه، ويشاركونه فرحه، وهذا زاد من مكانته لديهم وجعلهم يهتفون:(يعيش الحوت ونحنا نموت)!!
{ عوامل مساعدة
ونجد ان تأييد “محمود” لقضايا المهمشين والمساكين وتلاحمه مع البسطاء، زاد من شعبيته، وجعله تواضعه متواصلاً مع الجميع مما جعل الراحة كبيرة لدى معجبيه وشعورهم بأنه يعبر عنهم وعن قضاياهم ويتحدث باسمهم في أغانيه، ويبث فيهم الأمل (ما تشيلوا هم).. وهذا العنفوان الثوري وصدى الخطاب الذي يمس شغاف النفس، كان له أثر السحر في هذه الصناعة.
وتمددت الأسطورة في ما قدمه من أغانٍ، فهو لم يكتف بالترديد كما فعل الكثيرون من جيله فطواهم، بل قدم أغانيه الخاصة وألبوماته، كما أضاف وجدد لأغاني التراث، وبرزت شخصيته والكاريزما العالية له في كل ما غناه، بحيث أصبح الكثيرون يعانون في سماع أغنية غناها (حودة) حتى وإن لم تكن خاصة به. وهذا يبين الشخصية الفنية الطاغية والحضور اللافت الذي يصبغ ما حوله بألوان (الحوت) الزاهية.
{ (التأمل) مع الإعلام!!
وأجاد الراحل فن (التأمل مع الإعلام)، فكان حاضراً بصورة راتبة ومشاركاً في عديد الفعاليات، وبالتالي فإن هذا الارتباط البصري والسمعي والتقارب الوجداني واللغة المشتركة التي نشأت بين الجمهور، وكذلك الظهور بأزياء مختلفة وأنماط متجددة من الأداء إلى المديح والمظهر، كلها عززت من روح الإثارة والتشويق والرغبة الجامحة في التقرب من النجم، وهذا يبرر الانتشار الكثيف لصوره على المركبات العامة والمحال التجارية العامة والخاصة وبأشكال مختلفة.. لكنها في النهاية كلها (الملك)!
وشاب بعض الغموض تفاصيل حياة الراحل المقيم، كما أثار الجدل في غير قليل من الأحيان، وصاحب بعض حفلاته وحتى رحيله الكثير من الأحداث والحراك الاجتماعي، وأثار وابلاً من النقاش لم ولن ينتهي، وهذه النزعة في العلم والمعرفة قادت الجمهور إلى الاندفاع نحو أخباره ومعرفة تفاصيل حياته، والهوس بملاحقته في حفلاته العامة والخاصة، وكل ما له علاقة به.
ولعبت الأسرة دوراً مهماً في خلق هذه الأسطورة من حيث إنه كان متزوجاً وأباً لأطفال، ولديه علاقة جيدة مع أخيه وأمه وخاله، وهذا يمثل بعداً اجتماعياً وعرفياً في مجتمعنا ذي القيم العائلية المتجذرة.. وظهوره بصورة (ود البلد) دعمت الارتياح النفسي له، وجعلته يعبر للقلوب والعقول دون عسير مشقة أو كثير جهد.
وعموماً.. فإن عوامل كثيرة يصعب إحصاؤها في هذه المساحة، ساهمت في خلق أسطورة (الحوت) التي ستضاف إلى مفردات كثيرة في هذه البلاد، ويمكنني أن أجمل القول إن (محمود قد آمن بنفسه فآمن به الآخرون).. له الرحمة والمغفرة.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية