الجبهة الثورية وخيار السلام
إن على الجبهة الثورية ومثيلاتها ومن يقفون خلفها ويستثمرون فيها ويعولون عليها سياسياً وعسكرياً، أن يعيدوا النظر في حساباتهم على ضوء ما يجري ويحدث الآن، بل على ضوء ما جعل الحركة الشعبية لتحرير السودان وجيشها الشعبي (SPLM – SPLA) وهي في قمة مجدها السياسي والعسكري، تلقي السلاح وتميل إلى الحل السياسي، وإن لم يوافق ذلك مزاج حلفائها من زعماء الأحزاب المعارضة الشمالية التي سلمت (ذقنها) بالكامل للعقيد “قرنق”..!
ومثل هذا الطرح والحديث لا يلقى جزافاً أو هكذا، وإنما مؤسس على ما يمكن الرجوع إليه والتفكير فيه، لا سيما أن السياسة دوماً هي (فن الممكن).
الجبهة الثورية هي الجناح العسكري لقطاع الشمال في الحركة الشعبية وأداة (أولاد قرنق) في إعادة استنساخ (السودان الجديد العلماني الاشتراكي الموحد) الذي قضى عليه (اتفاق نيفاشا) ببروتوكولاته وأجندته التي نفذت بالكامل بعد رحيل القائد “قرنق”، وأدت إلى الانفصال بين الشمال والجنوب ليصبحا جمهوريتين هما: جمهورية السودان وجمهورية جنوب السودان.
وقد كان “باقان” و”عرمان” وأتباعهما ممن عرفوا بـ (أولاد قرنق) يعولون في مشروعهما ذاك على:
– السلطة في دولة الجنوب وأصدقائها من دول الجوار وغيرها.
– وأحزاب الإجماع الوطني المعارضة في جمهورية السودان والجماعات المتمردة حاملة السلاح في دارفور.
إلا أنه بالنظر إلى ما جرى على الصعيدين المذكورين، يجد المراقب والمحلل السياسي أن الاستثمار وإيداع كل الآمال والتطلعات في سلة دولة الجنوب، التي طرأ عليها ما طرأ، وفي شهادة (المعارضة) الاستثمارية التي ليست لها مقومات النجاح حسب ما رأينا من قبل ونرى هذه الأيام، يعد من ملامح الخسران المبين.
فالحركة الشعبية SPLM – الحزب الحاكم – وجمهورية جنوب السودان التي استقلت بمواردها النفطية وبعلاقاتها الخارجية، قد كانت بادئ الأمر عنصر ضغط أمني واقتصادي ودبلوماسي على جمهورية السودان الدولة المجاورة التي لها ما يمكن أن يحقق المنافع والمصالح بين الدولتين الجارتين، ولكن الحال – كما هو معلوم – لم يستمر على ما اشتهى وحلم به (أولاد قرنق)، إذ أن حسابات الحزب والدولة انتهت إلى أن الحال في الجمهورية الوليدة لن يستقر أو يستمر دون اتفاقيات سلام ووئام وتعاون بين الدولتين. وهذا ما انتهى إليه الحال بالفعل، بعد مفاوضات وتفاهمات استمرت لوقت طويل، وأنجبت (اتفاق التعاون المشترك) الذي كان من منتجاته:
– إعادة تدفق نفط الجنوب عبر خطوط الشمال وصولاً إلى التكرير والتصدير عبر موانئ البحر الأحمر.
– حظر الحركات الشمالية المتمردة حاملة السلاح من الانطلاق من دولة الجنوب، ثم فتح الحدود وتأمينها والعمل على استكمال ما علق من بنود خاصة بالحدود.
وقد أدى اتفاق توفيق الأوضاع والأمن والمصالح هذا إلى الانعكاس سلباً على طموحات (قطاع الشمال) وداعميه من أحزاب المعارضة في الشمال. ولم يقف الحال عند ذلك بطبيعة الحال، ذلك أن الأمر وصل إلى انقسام بين القيادات في الحزب الحاكم بالجنوب بحيث وصل إلى درجة حمل السلاح والإلقاء بعدد من القيادات في المعتقلات.. وهو أمر لا يسعد أو يحقق مصلحة، إلا أنه مظهر من مظاهر الخلاف الذي تسعى دول الجوار ومنها السودان ودول الإيقاد و”يوغندا” إلى (لملمته) ودرء آثاره السالبة (جنوبياً) وغير ذلك.
هذا هو ما يجب أن يكون في حسابات قطاع الشمال في الجنوب وفي حسابات شركاء وداعمي الجبهة الثورية من أحزاب المعارضة في جمهورية السودان أيضاً.
والخسارة ليست في دولة الجنوب وحدها، وإن كانت هناك أكثر وأكبر، ولكن في جمهورية السودان أيضاً، حيث أُصيبت أحزاب المعارضة بتصدعات في العلاقات في ما بينها وفي البناء الحزبي الخاص بكل حزب، والإحالة هنا إلى ما يجري هذه الأيام بين:
– حزب الأمة القومي والحزب الشيوعي السوداني.
– وبين قيادات الشيوعي والشعبي – أي “الكمالين” الأعلى صوتاً وحساً في الحزبين.
فحزب الأمة القومي وجه الاتهام في قتل الأنصار بـ”الجزيرة أبا” في أيام ثورة مايو الأولى للحزب الشيوعي السوداني، وربما وصل الأمر بين الطرفين إلى سوح القضاء.. ولم يخلُ الأمر من الملاسنات والمخاشنات، فقد كانت للسيد “أبو عيسى” تصريحاته الصحفية المشهورة في هذا المجال.
وما ذكرنا في سياق العلاقات بين أحزاب المعارضة، وهي ليست على ما يرام بل سيئة، نجد أن لذلك أثره على قطاع الشمال وأداته العسكرية (الجبهة الثورية) التي تأذت مما جرى في الجنوب، وجاء ما يجري في الشمال ليزيد الطين بلة – كما يقولون..
ذلك علاوة على الصراعات داخل هذه الأحزاب وأشهرها ما يجري على ساحة المؤتمر الشعبي وحزب الأمة القومي، فالأخير يشهد (ثورة شبابية) كما يقولون، والأول حملة صحفية نقدية على مستوى قيادي عالٍ.
وفي ظل هذا كله تموت نغمة (إسقاط النظام) التي تحل محلها هذه الأيام جملة قرارات وإنجازات تجد قبولاً من الرأي العام، وأشهرها ما حدث من مشاريع ومكاسب تنموية نَعِم بها عدد من الولايات كولاية الجزيرة وغيرها.
إن خيار السلام الذي جعلناه عنواناً لـ (المشهد السياسي) اليوم هو خير ما يهدى للجبهة الثورية ويلقى بين يديها، والحديث عن السلام هو السائد ويرفع الجميع رايته هذه الأيام في الداخل والخارج في وقت واحد. ولم نقل ذلك بلا مبررات أو دواعٍ يجدها من يهمه الأمر في هذا المشهد.
فعلى (أولاد قرنق) ولا سيما قادة قطاع الشمال ورافعي شعار (السودان الجديد العلماني الاشتراكي الموحد) الذي تركه القائد الراحل العقيد “جون قرنق دي مبيور” خلفه منذ مفاوضات أبوجا وصولاً إلى المنتجعات الكينية وأشهرها (نيفاشا) التي توجت فيها مفاوضات السلام في يناير 2005م.. فقد حسب “قرنق” الأمور على الوجه الصحيح ولم يسرف في الآمال والتطلعات شأن آخرين بعد ذلك.
الجبهة الثورية ليس لديها بعد الآن ما تعتمد عليه وقوداً لحراكها على الجبهات التي يبدو أنها الآن قد أصبحت في قبضة الجيش السوداني وتوابعه.