(المجهر) تقلّب أوراق العمر مع الدكتور "محمد خير الزبير" محافظ بنك السودان السابق (1 – 3)
الدكتور “محمد خير الزبير” أحد أعلام الاقتصاد السوداني، الذي رغم الجمود في الاقتصاد يتمتع بخفة دم ولطف ومهارات عالية في مجال كرة القدم، التي مارسها منذ أن كان طالباً بمدرسة الخرطوم الثانوية القديمة، فكان أحد أعمدة نادي شمبات الرياضي، وظل لاعباً أساسياً لاثني عشر عاماً معه.. لقد حاولنا من خلال هذا الحوار الذي امتد إلى ساعتين بمنزله بشمبات تقليب أوراق العمر معه منذ المولد والنشأة والدراسات والمحطات المهمة في حياته.. وكيف تقلد منصب وزير الدولة بالمالية.. ومن الذي رشحه له.. وكيف وصل إلى منصب وزير المالية.. وماذا أعطته الوزارة وماذا أخذت منه؟؟ متى استقر الاقتصاد السوداني ومتى انهار؟ وما هي أسبابه؟ أفضل وزراء مالية عمل معهم.. ولماذا هاجر للعمل بليبيا؟ ومن الذي اختاره لتولي منصب محافظ بنك السودان؟ القرارات الاقتصادية وأثرها على المواطن السوداني.. أيام الفرح التي عاشها وعلاقته بالفن والغناء ولمن يستمع؟ الأحداث المهمة التي شهدها وهو طالب بجامعة الخرطوم.
نترك القارئ للاستمتاع والإطلاع على إفاداته من خلال حلقات هذا الحوار.
– “محمد خير الزبير”.. كان ميلادي بمدينة شمبات في 15/10/1944م، وبدأت تعليمي شأني شأن معظم أبناء السودان.. درست بـ(خلوة الشيخ الأمين) بمسجد (زين العابدين) بشمبات الجنوبية، ومن ثم التحقت بمدرسة شمبات الغربية الابتدائية، أمضيت بها أربع سنوات وامتحنت للشهادة الوسطى، وأذكر وقتها كانت هناك مدرسة واحدة وسطى وهي مدرسة الأميرية الوسطى ببحري.. كان عدد التلاميذ المرشحين للقبول بها لا يتجاوز الأربعين طالباً من كل المدارس الابتدائية بمنطقة بحري، وكنت واحداً من الأربعين طالباً الذين التحقوا بها.
} هل تذكر بعضاً من زملاء الدراسة بها؟
– الزملاء كُثر، لكن أذكر ابنيّ الفريق “عبود” “محمد” و”عمر” كانا من زملاء الدراسة.. “محمد” كان يتقدمنا بعام و”عمر” خلفنا بعامين.. ومن ثم التحقت بمدرسة الخرطوم الثانوية القديمة، وقتها كنا مصنفين ضمن أبناء الأقاليم لذلك التحقنا بالنظام الداخلي.
} هل تذكر بعض الزملاء فيها؟
– أذكر المشير الآن “عمر حسن أحمد البشير” رئيس الجمهورية، وكان ضمن دفعتنا، و”علي عثمان محمد طه” النائب الأول السابق.. كان خلفنا بعامين.
} كيف كانت علاقتك بالطالب وقتها “عمر البشير”؟
– الطالب “عمر البشير” كان ضمن دفعتي ولكن لم نكن في فصل واحد.. كان من الطلبة الذين يدرسون بالخارج، ولكن دائماً كان يأتينا في المساء (سايق عجلة ولابس عراقي بلدي وسروال)، وتوطدت علاقتي به عبر صديقي “عبد القيوم حسن”.
} هل كان من الطلبة المميزين وهل كنتم تتوقعون أن يحكم السودان؟
– “عمر البشير” كان طالباً عادياً مثله مثل بقية الطلبة.
} هل كنت مهتماً بالسياسة؟
– وقتها كنت من عشاق الرياضة، وكنت ضمن لاعبي الفريق الأول، لذلك لم أهتم كثيراً بالسياسة.
} و”عمر البشير”؟
– ما كان في الفريق الأول، لكن كان مشجعاً قوياً لنادي الهلال.
} وأنت؟
– كنت أشجع الهلال.. وما زلت.
} مع أي الفرق الرياضية كنت تلعب؟
– لعبت لنادي شمبات بالدرجة الأولى، واستمررت لاثني عشر عاماً منذ أن كنت طالباً بالخرطوم الثانوية وجامعة الخرطوم.
} في أي الخانات كنت تلعب؟
– في الهجوم.
} أجمل الأهداف التي أحرزتها؟
– كثيرة، ولكن آخر مباراة لعبتها تقريباً في عام 1972 أو 1973م كانت شمبات ضد الهلال، فأحرزت هدف الترجيح وانتهت المباراة لصالح الهلال 2/1.
} في فترة الصبا ألم تعمل في الإجازات؟
– عملت في عطلة المدرسة (طُلبة) مع المقاول “محمد عبيد”، وكنا ننقل الطوب وفي الأسبوع يمنحنا (خمسة قروش).. وفي المنزل (كانت عندنا غنم).. وشمبات كانت قرية صغيرة، والصافية مليئة بالحشائش، فكنا نرعى فيها.. كما عملت أنا صغير في شحن الضأن الذي كان يعد للتصدير عبر القطار إلى حلفا وبورتسودان.. كانت هناك (كرنتينة) تفحص فيها الأبقار والضأن قبل التصدير، وعندما تكون خالية من الأمراض تعدّ للتصدير.. كنا نقوم بالمساعدة في شحنها داخل القطار.
} والوالد؟
– الوالد كان عاملاً في (كرنتينة) تصدير الأبقار ببحري.
} وأنت طالب.. ما هي المواد المحببة إليك؟
– الجغرافيا.
} والسبب؟
– لأنها كانت تتحدث عن الطبيعة والبلدان والأنهار والجبال وخريطة العالم.
} وبقية المواد؟
– كلها كنت جيداً فيها.
} وبعد الخرطوم الثانوية؟
– التحقت بجامعة الخرطوم كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.
} هل كان بإمكانك أن تدرس غير الاقتصاد؟
– كان.. لكن ذلك يتطلب دراسة الرياضيات الإضافية أو العلوم الإضافية، وبالفعل بدأت أدرس رياضيات إضافية وبعد شهرين من الدراسة تركتها وعدت إلى قواعدي.
} في الجامعة بالتأكيد هناك زملاء؟
– نعم.. وأذكر منهم “صابر محمد الحسن”، و”النيل أبو قرون” وهذا زميل دراسة من المرحلة الابتدائية وحتى الجامعة، لكنه اتجه إلى دراسة القانون وأنا اتجهت لدراسة الاقتصاد.. وهناك زملاء دراسة كانوا مشاهير في كرة القدم مثل “حبشي” لاعب الهلال و”كمال بني” و”قدورة” لاعبي المريخ.
} من الأحداث الكبيرة التي شهدتها وأنت بالجامعة؟
– (ثورة أكتوبر).. واذكر أن الثورة اندلعت ونحن لم نكمل ثلاثة أشهر بالجامعة.
} ما الذي تتذكره عن تلك الثورة وأنت بالجامعة؟
– أذكر في نفس يوم ندوة (الأربعاء) كانت هناك مباراة ودية بين شمبات والهلال بدار الرياضة أم درمان فذهبت لأداء تلك المباراة، وعندما عدت في المساء وجدت بعض الزملاء بالغرفة فنبهوني بأن هناك ندوة بـ(البركس) فذهبت معهم.
} هل تذكر المتحدثين؟
– شاهدت المتحدثين وهم على المنصة ونحن نجلس على الكراسي بالصفوف الخلفية.. لا أتذكرهم، لكن شاهدت مجموعة من رجال الشرطة طوقوا المنطقة وطالبونا بفض الندوة وإخلاء المكان، إلا أن الطلبة لم ينصاعوا لأوامرهم فقاموا بإطلاق (البمبان)، وهذه أول مرة نشاهد رجال الشرطة بالعصي والخوذات على رؤوسهم، ومع إطلاق (البمبان) اندلعت التظاهرات داخل الجامعة، فبدأ الطلبة يركضون والبوليس يطاردهم إلى أن سمعنا أن هناك طالبين أصيبا بالرصاص هما الطالب “أحمد القرشي طه” والطالب “بابكر عبد الحفيظ” وتم نقلهما إلى المستشفى، فذهبنا إلى المستشفى الذي كان قد تجمع فيه معظم الطلبة، ونحن هناك قالوا إن الطالب “القرشي” قد توفي.
} هل تذكر من كان معك من الطلبة آنذاك؟
– أذكر “النيل أبو قرون” و”الرشيد أحمد جاد كريم” و”بابكر خضر عبد القادر”.
} ومن الشخصيات السياسية البارزة؟
– بعد أن تأكدت وفاة الطالب “القرشي” حُمل الجثمان على ظهر (لوري)، وفي (ميدان عبد المنعم) بدأت الصلاة عليه، وشاهدنا شخصاً يصلي على الجثمان وعندما سألنا قالوا إن الذي يصلي هو “الصادق المهدي”.. وبعد الصلاة كان هناك اثنان من الأساتذة يخطبان أحدهما كان الدكتور “الترابي” والثاني يدعى “حسن عمر” بكلية القانون.. وفي اليوم التالي اندلعت الثورة، وكانت أهم حدث أشاهده وأنا طالب بالجامعة وقتها.. وهذا الحدث خلق للجامعة سمعة طيبة.
} ما هي أول محطة لك بعد التخرج؟
– تخرجت في الجامعة في مارس 1968م، وفي مايو من نفس العام تلقينا طلباً من وزارة المالية لإجراء معاينات، وبالفعل أجريت لنا المعاينة، وتم تعييني ضمن خمسة عشر خريجاً بوزارة المالية.
} هل تذكر كم كانت (الماهية)؟
– كانت حوالي ثلاثين جنيهاً، وتم رفعها إلى ثمانية وأربعين جنيهاً من قبل وزير المالية آنذاك “الشريف حسين الهندي”، ولكن لم نهنأ بالزيادة فقد جاء نظام مايو فاسترد كل المبلغ.
} كيف كانت علاقتكم بوزير المالية “الشريف حسين”؟
– لم تكن لنا علاقة معه.. كنا نشاهده من بعيد.. وكان من وزراء المالية الممتازين الذين مروا على السودان.
} وبند العطالة؟
– هو بند استحدثه “الشريف حسين” لتشغيل الخريجين، لكن لم يستمر طويلاً لأن النظام المايوي بعد عام من التحاقنا بالمالية استولى على السلطة.
} ما هي محطتك الثانية؟
– كل محطاتي كانت بالمالية، من أول سلم الوظيفة حتى تولي منصب وزير المالية.
} الأقسام التي عملت بها؟
– عملت بقسم القروض الخارجية، وأثناء تلك الفترة ذهبت في بعثة دراسية إلى المملكة المتحدة بجامعة (ويلز) أمضيت بها سنتين وحصلت على درجة الماجستير في الاقتصاد المالي.. وبعد ثلاث سنوات عدت مرة أخرى إلى نفس الجامعة وحصلت على درجة الدكتوراه عن طريق البحث، وكانت عن دور القروض الخارجية في التنمية.. وعدت بعدها إلى الوزارة.
} هل تذكر وزراء المالية الذين عاصرتهم؟
– “مأمون بحيري” و”إبراهيم منعم منصور”.
} ما هي أكثر فترة خصبة استقر فيها الاقتصاد السوداني؟
– كانت بعد اتفاقية أديس أبابا في عام 1972م.. وقتها كنا مسؤولين عن التنمية.. وكل المشروعات التنموية الكبيرة كانت قد تمت خلال فترة حكم الرئيس “نميري”.
} هل تذكر تلك المشاريع؟
– نعم.. مصانع السكر في (سنار وعسلاية وكنانة)، والتوسع في السكة الحديد، وفي الكهرباء، وفي مجال الطرق مثل طريق (الخرطوم– مدني) و(الخرطوم- بورتسودان)، والخط الناقل للبترول من بورتسودان إلى الخرطوم، بالإضافة إلى بعض المشاريع الأخرى مثل مشروع (السوكي الزراعي) ومصانع الغزل والنسيج ومعاصر الزيوت.
} ما هي الأسباب التي أدت إلى تلك النهضة التنموية وقتها؟
– مايو في بدايتها أجرت سياسات كانت لها آثار مالية على التنمية، ففي عام 1970م أممت وصادرت ممتلكات رجال الأعمال السودانيين وحولتها إلى الحكومة، ولكنها لم تنجح، كما قامت أيضاً بتأميم البنوك، فمثلاً أممت بنك (باركليز) وكان من أفضل البنوك، وإذا ترك لينمو نمواً طبيعياً لكان له أثر طيب على الاقتصاد.. تلك القرارات كانت ذات أثر صعب على الاقتصاد السوداني.
} وكيف نما الاقتصاد بعد ذلك؟
– بعد انقلاب “هاشم العطا” وخروج الروس، اتجه “نميري” إلى الغرب وصارت له علاقة حميمة مع الدول الأوروبية والدول العربية، إضافة إلى اتفاقية أديس أبابا التي وقعها “نميري” مع الجنوبيين في عام 1979م، فالاتفاقية مع التراجع عن قرارات التأميم والمصادرة أعطت دفعة قوية جداً انعكست في نمو الاقتصاد السوداني، وحتى العام 1979م كان الجنيه السوداني يساوي دولارين وأربعة وثلاثين قرشاً.
} رغم استقرار الاقتصاد إلا أنه بدأ في التراجع.. ما سبب ذلك؟
– بدأت المشاكل تظهر على الاقتصاد السوداني منذ العام 1973م عندما اندلعت (حرب أكتوبر) بين مصر وإسرائيل.. وذاك التاريخ شهد أول ارتفاع للبترول عندما استخدم الملك “فيصل” البترول كسلاح في الحرب.. والسودان وقتها كان مستورداً للبترول فتضاعفت الفاتورة، وأثر ذلك على النقد الأجنبي، والتوازن ما بين الصادرات والواردات السودانية بدأ يختل نتيجة لارتفاع فاتورة البترول، وهذا شكل ضغطاً على ميزان المدفوعات، وظل هذا الضغط منذ ذاك الوقت وحتى الآن.. والسودان في ذاك الزمن عجز عن سداد التزاماته، فظهرت بعد ذلك الندرة في النقد الأجنبي، وبدأت تظهر صفوف البنزين والخبز، وكل شيء مستورد، مما خلق أزمة داخلية بالبلاد.
} ألم تصلكم أية مساعدات من الدول الصديقة؟
– وصلت بعض المساعدات من الدول العربية مثل الكويت والسعودية، وكانت قروضاً نقدية، (سماد) و(بترول) ولكنها لم تسد الفجوة لأنها كانت أكبر، فظهر بعد ذلك السوق الموازي إلى أن جاء “بدر الدين سليمان” كوزير للمالية وبدأ سياسة التحرير، فحرك سعر الصرف.. ولكن وقتها بدأت الديون الخارجية تتراكم.