رأي

تلك الأيام..!!

صوت رنين هاتفي في منتصف الليل يصيبني بالقلق، ويبدو أن حساسيتي لذلك قد ازدادت بوجودي في الغربة.. أجبت على الهاتف.. أتاني صوت صديقي “محمود” وقد شابته رنة حزن حاول أن يداريها.. سألته بقلق: (خير يا محمود مالك في شنو؟؟) رد عليّ: (معليش يا ياسر أنا عارف إنو الوقت متأخر لكن والله حالة أستاذ صديق ماشة متدهورة ونحنا هسع في المستشفى, النوبة القلبية عاودته مرة تانية ودخل العناية المكثفة).. هتفت: (يا رب السماء ألطف به يا لطيف).. وتابعت: (بكرة يا محمود من الصباح ابدأ في إجراءات السفر لأستاذ صديق وأنا هنا حاتابع إجراءات المستشفى.. لازم نكسب الزمن.. مشكلة في القلب موضوع ما هين, ولازم يكون هنا في أقرب فرصة).. ختمت مكالمتي مع “محمود”.. تمددت على فراشي, جافاني النوم وأنا قليل الخبرة في السهر.. رجعت بي الذاكرة سنوات للوراء ووقفت عند المحطة الأخيرة من أيام الصبا، أنا ورفيق دربي “محمود”, فنحن جيران حي واحد قبل أن نكون زملاء دراسة.. قادتنا خطى التفوق إلى خارج قريتنا الصغيرة الوادعة.. تذكرت ذلك الصباح البعيد حين خرج الأهل لوداعنا، فسنتجه إلى المدرسة الثانوية حيث السكن الداخلي والبعد عن الأسرة.. يومها أوصتني أمي كثيراً وختمت قولها: (عافية منك.. خليك زي ما إنت راضع لبن أمك, ومااالي مراكزك).. (حبوبة زينب) جمعت سبع حفنات من أثر قدمي, ربطتها بحرص شديد داخل قطعة قماش وستحفظها مع أغراضها في مكان أمين إلى حين عودتي.. هكذا قد أخبرتني: (أمشي يا ود يحيى, الله يعدلها عليك).. شد جدي أحمد على يدي طويلاً وسألني: (شلت مصلايتك ومصحفك؟؟) رددت عليه :(أيوه يا جدي سندس أختي دخلتهم لي في شنطتي).. اصطحبنا والدي وعمي “مختار” والد “محمود” وأخي “عبد العزيز” حتى موقف البصات.. دس عمي “مختار” مبلغاً من المال في جيبي.. ودعني أبي وكم هي مريحة الاتكاءة على كتف هذا الرجل العظيم الذي يحبنا على طريقته، فوالدي يسمعنا أكثر مما يتحدث إلينا ومنه تعلمنا صفة الإنصات الجيد. في ذلك الوقت كان الطريق جد طويل, علق “محمود” أنه يسمع الأنفاس اللاهثة المتقطعة للبص وهو يطوي الطريق.. على مسافات متباعدة كانت تبدو مظاهر من الحياة.. في إحدى المحطات دنا منا رجل وسألنا صحيفة يومية.. لم نفهم طلبه فشرح قائلاً: (جريدة يومية حتى لو كان عدد قديم) ناولناه طلبه ونزلنا لاحتساء كوب من الشاي وتناول وجبة الإفطار، التي أصر “محمود” أن تكون على حسابه قائلاً: (ما تستغرب عليّ كرمي الحاتمي, عمي يحيى أدانى قروش وإحنا ماشين على البص) ضحكت طويلاً وأجبته: (ما براك).. وتنهدت بارتياح، فمع أهلنا تعلمنا أن الجيب واحد والناس بتكمل بعض.. بعد مسيرة يوم بحاله بدأت تظهر من بعيد بعض الأضواء.. إنها معالم المدينة.. ووصلنا إلى الداخلية، وما أن توقف البص أمام البوابة الخشبية الضخمة حتى انفتح وأطل منه شيخ نحيل حيانا بحرارة عرفنا أنه عم “طه”.. دخلت أنا أولاً إلا أنني تسمرت أمام الرجل الذي وقف أمامي ماداً يده بالتحية.. أنقذني “محمود” فتلقى الكف الممدودة, عرفنا بنفسه: (الأستاذ صديق.. أستاذ اللغة العربية والمشرف على سكن الطلاب).. أرشدنا إلى مكان سكننا (عنبر الهشاب).. شكرناه ثم غادرنا.. همس “محمود” قائلاً: (يخلق من الشبه أربعين).. هززت رأسي مؤيداً: (أستاذ صديق صورة من والدي).. انقضت سنوات الدراسة بحساب الزمن، بينما حُفرت في نفوسنا تفاصيل أخرى لتلك السنوات الثرة الخضراء، وكان أكبرها أثراً وعمقاً علاقتنا بأستاذنا الجليل “صديق”.. حقيقة هو رجل بمقاس مهنته، معلم متمكن ومشرف مرن.. عرفنا أنه هو من أطلق أسماء أشجار السودان على عنابر السكن بالداخلية (الهشاب.. التك.. الأبنوس.. التبلدي).. قال “محمود” إن الأستاذ جمع السودان كله في هذه الرقعة الماهلة الضيقة.. من يعرف أستاذ “صديق” يحس أنه أمام إنسان فخور بما يملك، وهذا ما يحاول غرسه فينا نحن طلابه.. حقيقة كنا نحس بأننا أغنياء بما نملك وكم هو مشبعُ هذا الإحساس.. “محمود” كان أقربنا للأستاذ، فهو عاشق للغة الضاد وكثيراً ما كان أستاذ “صديق” يدعونا لداره العامرة حيث أسرته الصغيرة, والده وشقيقاه.. كان أستاذ “صديق” مصوراً بارعاً بقلمه، كثيراً ما يكتب خواطره ومذكراته.. قربنا منه سمح لنا بقراءة ما يكتبه، ومن خلال كتاباته عرفنا الكثير عن هذه الأسرة الصغيرة، فقد صور مأساة أثرت في حياته, وهي موت شقيقته الوحيدة “نجاة”, ابنة السادسة التي فارقت الحياة بعد ثماني ساعات من عملية ختانها.. قالت حروفه إن “نجاة” في ذلك اليوم كانت سعيدة تتنقل في أرجاء دارهم كما الفراشة بضفائرها المرتاحة على كتفيها، وعينيها المكحولتين وقد أحاط بجيدها عقد من الذهب، بينما تعالى صوت أساورها بيديها الصغيرتين وجعلت هي تدور فرحة بثوبها الأزرق الطويل مزهوة به, ولكن- برغم مظاهر الفرح التي طغت- فقد انخلع قلبه عندما دخل إلى غرفة شقيقته بعد ساعات قليله من ختانها.. نظرت إليه في فتور حاولت الابتسام فلم تفلح.. أمسك بيدها الصغيرة.. قالت: (أنا بردانة).. كانت ترتجف.. أسرع إلى والدته، فسقتها حليباً دافئاً، لكن ساءت حالتها ولفظت أنفاسها في هدوء، بينما سالت دمعة من عينها اليمنى تسلقت عمود أنفها الدقيق لتقف عند ركن عينها اليسرى ممتزجة ببعض كحلها لتكون بقعة سوداء متجمدة على الوجه الملائكي.. وجن جنون والدها الذي كان يرفض عملية الختان هذه فرمى يمين الطلاق على زوجته.. وخرجتا معاً.. “نجاة” إلى المقابر ووالدتها إلى دار أهلها.. وبدقة المصور الماهر صور الأستاذ المشهد الأخير, التفاتته الدائمة لرؤية والدته وهي تغادر ومحاولاته اليائسة لتثبيت يديه على نعش شقيقته الوحيدة.. ومن حينها بات مسؤولاً عن شقيقيه, “طارق” و”فيصل”.. كان يجاهد ليملأ الفراغ الذي تركته والدته والحزن الذي خلفه الرحيل المفجع لأخته.. ساعده على ذلك والده الذي نذر حياته لأبنائه الثلاثة وصم أذنيه تماماً عن كل المحاولات التي بذلها أهله لإرجاع زوجته التي وصفها بـالقاتلة التي فلتت من يد العدالة بحزمة من العادات بالية).. وبدا لـ”ياسر” وهو يسترجع هذه الأحداث القديمة أن الحزن لم يغادر قلب أستاذه منذ ذلك الوقت، بل سكن فيه وأقام بمغادرة أمه وأخته في يوم واحد.. الأولى بالحياة والثانية بالموت.. ويبدو أنه قد صمد طويلاً ولكن ها هو يتهاوى الآن.. في الصباح التالي لم يستيقظ “ياسر” إلا على طرقات زميله في السكن لباب غرفته.. أفاق بصعوبة ليلحق بعمله.. خلال النهار أجرى الكثير من المحادثات التلفونية مع أربعة من زملاء الدراسة الذين يقيمون مثله هنا ببلاد الغربة، وجميعهم طلاب لأستاذ “صديق”، واتفق الرأي على ضرورة وصوله سريعاً مع مرافق له.. وفعلاً مرت الأيام سريعاً، وبحضوره قرر الطبيب سرعة إجراء عملية لوجود انسداد في شرايين القلب.. وكانت ساعات بلا اسم.. انتهت العملية.. هو الآن بغرفة العناية المركزة.. عدد من الأنابيب مثبت في أنحاء جسده.. لا شيء سوى الصمت والشاشة المثبتة التي يقرأ خطوطها الأطباء.. و”ياسر” بردهة المستشفى جعل يتأمل تلك العلاقة التي ربطت بين كل من رافقه وأستاذه بالمستشفى، حتى “محمود” الذي لم ينقطع رنين هواتفهم من مكالماته من السودان وهو يتابع معهم مراحل العلاج وساعات الانتظار، ولكن الله لطيف بعباده، فهاهم الأطباء وقد بدوا راضين عن استقرار وضعه الصحي وتجاوزه مرحلة الخطر.. عندما انتقل إلى غرفته بالمستشفى وأشرقت عيناه بالبريق الذي يعرفونه، جعل يتأملهم, بدا فخوراً بهم وبرصيد المحبة الذي يملكه داخلهم.. عندها قال “ياسر”: (يا أستاذي العظيم لقد غرست وها أنت الآن تجني ثمار غرسك.. فما فعلناه أداء لدين كبير لك علينا).

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية