رأي

مكتول هواك يا كردفان..!!

“عبد الجبار” معلم متخصص في اللغة العربية ومواد أخرى، من طراز المعلمين- ناس (بخت الرضا)- الذين غنت لهم في سالف الزمان الحسان (يا ماشي لي باريس جيب لي معاك عريس.. شرطاً يكون لبيس من هيئة التدريس..). والأستاذ “عبد الجبار” فوق ذلك شاعر رقيق و(دمعتو قريبة.. ومليان حنية ومحنة).. عشق كردفان حد الوله، فمكث فيها متنقلاً في مدارسها زهاء العقدين من الزمان، وكلما جاء خطاب نقله طلب المواطنون إبقاءه بالمدرسة.. عشق أم روابة والأبيض وكادوقلي، وما زالت ذكريات صباه النضر مخبوءة في حرزٍ أمين في وجدانه الطاهر النقي.. وكانت ستينيات القرن الماضي حتى سبعينياته أحلى سني حياته وأنضرها، وترجم حبه هذا إلى أغنية وضعته في مضاف شعراء الغناء السوداني (مكتول هواك يا كردفان.. مكتول هواك أنا من زمان.. أتمنى يوم زولي القبيل يقطع معاي درباً عديل.. مشوار عمر ودرباً جميل.. نمشيهو في رمل القويز في كردفان).. وقتها كان صديقي د. “عبد القادر سالم” زميلاً للأستاذ “عبد الجبار”، وكلاهما كان مولعاً بالموسيقى والغناء، وهذا دأب قدامى المعلمين، إذ كانوا بجانب حذقهم في مهنة التدريس يحذقون في الفنون الجميلة التي كانت مواد يتدرب عليها المعلم ليلقنها بدوره إلى تلاميذه. وكان معهد التربية بـ(بخت الرضا) بمدينة الدويم يعد تلك المناهج التي افتقدتها العملية التربوية والتعليمية هذه الأيام، وأحمد الله إذ كنت من ذلك الجيل الذي تلقى التربية والتعليم من أمثال الأستاذ “عبد الجبار” عاشق كردفان.. ووضع د. “عبد القادر سالم” اللحن الرائع الذي استقر في وجدان معظم أهل السودان، فرسم “عبد الجبار” و”عبد القادر” لوحة رائعة لكردفان، وهذا دأب الفنون، تجسد الواقع وتضفي عليه قيم الإمتاع الوجداني من جمال وحب وعبير.. “عبد الجبار” علّم “عبد القادر سالم” العزف على آلة العود إلى جانب العزف على آلة الكمان، فعاشا في مناخ إبداعي شكل ركائز مهمة في تكوين الأستاذين، وتفرقت بهما السبل، فذهب “عبد القادر” إلى الخرطوم ليلتحق بمعهد الموسيقى والمسرح، وشدّ “عبد الجبار” الرحال إلى اليمن السعيد معلماً معاراً، لكن أواصر الصداقة وذكريات كردفان والزمن الجميل تربطهما إلى أن كانت لحظة لقائي بالأستاذ “عبد الجبار” بضاحية من ضواحي شرق النيل تدعى (النيّة)، ضاحية رائعة، تقع مباشرة شرق النيل العظيم جنوب ضاحية (الجيلي) ببترولها وغازها وأهلها أصحاب العراقة والتاريخ المجيد.. دليلنا كان د. “عبد القادر سالم”.. ذهبنا قبل يومين، نحن نفر من الأصدقاء.. الأستاذ “عبد الله بلال” عضو المجلس التشريعي لشمال كردفان، الصديق الشاعر الرقيق “إسماعيل الإعيسر”، الشاعر “ياسر المريود” المدير التنفيذي لمنظمة (منار الثقافية) الكردفانية والأستاذ “حسن حمد” الناشط الرياضي وعضو المنظمة- وكلهم كردفانيون- والفنان الكبير “عوض الكريم عبد الله”.. ذهبنا عند مغيب الشمس إلى منزل الأستاذ “عبد الجبار” الذي أرسل ابنه في مدخل الطريق إلى المنزل ليستقبلنا، ومن شابه أباه ما ظلم، فابن “عبد الجبار” انعكاس لوالده.. ووجدنا باب الدار مفتوحاً على مصراعيه و”عبد الجبار” فاتحاً ذراعيه يحضننا واحداً واحداً، وتبرق عيناه بالفرح في غلالة شفافة ممزوجة بدموع الفرح.. وداره باحة غناء، الجزء الأكبر منها أشجار النخيل البازخة وأحواض من الزهور والزروع والإخضار، والقمر كامل الاستدارة يرمقنا بصفاء عجيب كأنه يشاركنا هذا اللقاء.. والمدهش حقاً، برغم أننا أخطرنا “عبد الجبار” قبل ساعة ونصف الساعة، إلا أن المنزل الجميل كان مهيأ كأروع ما يكون.. وبدأ أفراد الأسرة في الترحاب بنا– ما شاء الله– كباراً وصغاراً نساءً ورجالاً في كامل أناقتهم وأزيائهم وملمح ملحوظ في الجانب الوراثي الذي اكتسبوه من رب أسرتهم شكلاً ومضموناً.. ومُدت موائد الفاكهة بأنواعها، والمشروبات الغازية والعصائر والتورتات والحلوى.. لله درك يا “عبد الجبار” يا كريم السجايا في ساعة ونصف الساعة تعد لنا كل هذا؟! وانساب الحديث هادئاً ناعماً عذباً، وقرأ لنا والذكريات تترى (مكتول هواك يا كردفان) التي حذف منها د. “عبد القادر” بيتاً بمقتضى، وأحاطنا الجيران وشقيق “عبد الجبار” بحب وحفاوة مخجلة.. والمساء والقمر والنجوم، وهدوء الريف ونسمات شتوية حانية تشاركنا الاحتفاء، الذي هو في الأصل مقدمة للصديق مولانا “أحمد هارون” والي ولاية شمال كردفان، الذي كلفنا باستئذان “عبد الجبار” توطئة لزيارته وتكريمه من حكومة الولاية باعتباره شاعراً ومبدعاً أحب كردفان، وهذا دأب وليد “هارون” أينما ذهب يحدث اللمسة الخلاقة المبدعة، حفظه الله، فالرجل شعلة نشاط وجم التواضع وديناميكي الحركة وميداني العمل، يستمع إلى كل مواطنيه، وفكرة النفير أصيلة في مسلكه، فقد تربى على هذه الثقافة التي نحمد له إحياءها.. ولن أنسى انطلاق بداية النفير بمحلية أمبدة الذي شرفه الصديق د. “عبد الرحمن الخضر” والي ولاية الخرطوم، وقتها انهالت تبرعات أهل كردفان القاطنين بالعاصمة فبلغت مليارات الجنيهات، وأضاف عليها الأخ الوالي ثلاثة مليارات.. وفي ظني أن نهج النفير سلوك اجتماعي أصيل عند أهل السودان لا سيما أهل الريف، وأحياؤه فيه خير كثير للحاكم والرعية، إذ ديدنه التعاون والمحبة والتعاضد ومشاركة الناس في أبهى تجلياتها، ومثل المؤمن في تعاضده كمثل الجسد لا يتأتى عطاؤه إلا بتضافر أعضائه كافة في تعافٍ خلاق وروح واحدة وغاية مرجوة.
وقرأت بمزاج عالٍ (عز الليل) وقصائد أخرى طلبها مضيفنا، وصدح الفنان “عوض الكريم عبد الله” وكنا (كورس) له غناءً عذباً جميلاً لم تشارك فيه آلة موسيقية، وقرأ “الإعيسر” أشعاره الرقيقة التي وجدت استحساناً. وتحدث “عبد الله بلال” المندوب الولائي مؤكداً حرص الولاية على تكريم المعلم.. وفرح في نكران ذات د. “عبد القادر سالم” فرحاً شديداً، وهو بحق جدير بتكريم يليق بمكانته أستاذاً وفناناً حمل كردفان رسالة عبر سنوات عمره المديدة بإذن الله تعالى، وختم لنا تلك الزيارة بـ(مكتول هواك يا كردفان) وودعتنا الأسرة الكريمة مع رجاء رقيق أن نعيد الزيارة، وسنفعل بإذن الله في معية “هارون” والي شمال كردفان، الذي وعد بطباعة ديوان “عبد الجبار”.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية