المشهد السياسي

ورغم ذلك .. سودانّا فوق..!

الصحفي والكاتب والمفكر السياسي “محمد حسنين هيكل”، الذي له إنتاجه المعروف عالمياً ومصرياً في ذلك المجال، عرف أيضاً بأنه قليل الاهتمام والاتصال ببعض الشؤون العربية والإسلامية، ومنها الشأن السوداني، شأن أبناء جيله من الإخوة المصريين، فقد كانت هناك على الدوام فجوة في المعلومات والاتصالات.
الأستاذ “هيكل” لم يزر السودان أو يعرفه، والله أعلم، إلا في أحوال ومناسبات بعينها. وأعني بذلك عهد شيخه الذي قدمه للعالم “جمال عبد الناصر”. ففي العهد الناصري كان ممسكاً بالمعلومات والاتصالات الخارجية التي انشغل بها، وانفعل بقية عمره الصحفي والسياسي معلقاً ومحاضراً وكاتباً. وعليه كان موجوداً إذ زار “عبد الناصر” السودان لأول عهده وبعد الاستقلال في السودان وما عرف بالنكسة في مصر والعالم العربي، حيث انعقد في الخرطوم مؤتمر (اللاءات الثلاث) الذي أجمع فيه العرب في موقف موحد ضد إسرائيل ودعم سياسي ودبلوماسي واقتصادي لمصر بعد القيام بالصلح بين الملك “فيصل” والرئيس “عبد الناصر” على يدي رئيس الوزراء السوداني يومئذٍ “محمد أحمد محجوب” في داره بالخرطوم.. وذلك في يوليو 1967م..
منذ ذلك التاريخ – ربما – لم يزر “محمد حسنين هيكل” السودان. ومن هنا كانت معلوماته وأفكاره وأطروحاته عن السودان مغلوطة ومثيرة للجدل، شأن ما أدلى به من قبل عن مقتل الإمام “الهادي المهدي” على الحدود الإثيوبية السودانية في مفتتح عهد نظام الرئيس “جعفر محمد نميري”، ثم ما أدلى به مؤخراً في مقابلته التلفزيونية عن السودان قائلاً إنه (ليس إلا مجرد جغرافيا..!)، أي لا أساس له أو مرجعية أو دور يذكر، مما آثار غضب الكثيرين من السودانيين، ولا بد أن يكون ذلك كذلك إلا عند البعض من ذوي الأجندة الخاصة الذين لا يشاركون السيد “هيكل” وجهة نظره التي ألقى بها، ولكنهم لا يجدفون بعيداً عنها. فمن غضبوا برأي الأستاذ “عثمان ميرغني” قد يكون غضبهم (جميلاً ونبيلاً ومطلوباً)، إلا أنه برأي “عثمان” في عموده (حديث المدينة) صباح (الأحد الماضي) بصحيفة (اليوم التالي)، غضب سلبي عاطل عن الفعل الموجب لتصحيح الصورة التي يرسمها الإعلام العربي عن السودان خارجياً.. ومن ثم طفق يرمي الصورة بكل ما لديه من مشوهات ليرد الغضبة على “هيكل” وأمثاله من أهل السودان الذين ظلوا يرددون مع “العطبراوي” و”التني” ( يا غريب بلدك.. يلا لبلدك.. وخد معاك ولدك..!!)، بل والذين يقولون الآن ويرددون (سودانّا فوق..).
هناك نواقص وسلبيات وأوجه قصور منذ الاستقلال وإلى اليوم، وهذا أمر معتاد في كل بلاد الدنيا، الكبير منها والصغير، الغني والفقير، لارتباط ذلك بالمتغيرات والمستجدات محلياً وإقليميا ودولياً، علاوة على الأسباب الخاصة وذات الصلة بالإدارة، وتوجيه الموارد والسلطة ومواجهة التحديات، وهي كثيرة في عالم اليوم.
فلماذا يتحدثون عن نسبة فقر وعطالة في الولايات المتحدة الأمريكية، ومساكن تنهار في المملكة العربية السعودية جراء السيول وغياب الصرف الصحي وما إلى ذلك، وكلاهما من البلاد الغنية ذات الاحتياطات التي يشار إليها البنان، ومن البلاد التي تضغط على الآخرين اقتصادياً ولا يضغط عليها، شأن جمهورية السودان ومثيلاتها من الدول في العالم الثالث؟!
لقد بقي السودان يواجه الضغوط الخارجية، ولا سيما الأمريكية والغربية منها، منذ إعلان قوانين سبتمبر في عهد نظام المشير “نميري”، وبعد حكومات الانتفاضة الديمقراطية وصولاً إلى اليوم أي منذ (1983 – 2014م)، والأسباب هي الأسباب التي جاءت أخرى لتضاعف منها وتزيد. وما نرمي إليه هنا ما عرف بالحرب على الإرهاب في 11 سبتمبر 2001م والمحكمة الجنائية الدولية بعد ذلك.
وفي كل الأحوال، كانت الحرب والتمرد في جنوب السودان قبل الانفصال، ثم أحداث دارفور والولايات الأخرى الآن.. كلها أدوات ضغط وتعويق لمسيرة النماء والتطور.. إلا أنه مع ذلك حدث ما حدث، وأصبح السودان قبلة للآخرين، ويذكر هنا:
– جامعة أفريقيا العالمية.
– الصناعات النفطية والمعدنية والسكر والإيثانول مؤخراً والاستثمار في المجالات الأخرى.
– ثم الأكاديميات العسكرية والخبرات السودانية إجمالاً.
إن جامعة أفريقيا العالمية مؤسسة أكاديمية وعلمية سودانية أفريقانية، رفدت الأقطار الأفريقية بالخبرات والمهارات في شتى المجالات، إذ صارت تشكل بعثاً جديداً للأزهر الشريف والمؤسسات العلمية التي خرجت من طور المحلية. ولعل القارة الأفريقية، وباعتراف قادتها الكبار، ومنهم الدكتور “ثامبو أمبيكي” رئيس جنوب أفريقيا السابق، صارت تلمس وتحيي ذلك الدور الذي وحد وربط أكاديمياً بين أبناء القارة ومفكريها.
والإقبال العالمي المشهود الآن على الاستثمار في مجال النفط والمعادن وصناعة السكر والزراعة من مختلف بلاد العالم (شرقه وغربه)، يؤشر على أن السودان صار وجهة للاستثمار، وبخاصة في مجال الزراعة، حيث ينظر إليه كسلة لغذاء العالم. وهذه حقيقة، وهو القطر الذي يملك الأراضي الزراعية الواسعة والمياه، وسائر ما هو مطلوب لذلك.
وقبل ذلك كله ظلت الأكاديمية العسكرية السودانية ومراكز التدريب الدفاعية السودانية ملجأ للدول الشقيقة والصديقة في ذلك المجال، كما أنها – أي تلك الدول – ظلت تنعم وتزخر بالخبرات السودانية في شتى الأطر كالتعليم والإدارة والقضاء والطب… الخ.
السودان والحال كذلك وزيادة (ليس إلا مجرد جغرافيا..!) كما قال “هيكل” يا “عثمان” في لقائه التلفزيوني المشار إليه، الذي ترى أن (غضب السودانيين عليه سلبي وعاطل عن الفعل الموجب لتصحيح الصورة التي يرسمها الإعلام العربي عن السودان خارجياً).
إن هذا الذي نقول لم نأت به من عندنا، وإنما هو واقع معاش يا “عثمان”.. غير أن البعض منا وفي إعلامنا لا يرى إلا نصف الكون الفارغ.. ولا يعمل – كما قال الأستاذ “مهدي إبراهيم” في اللقاء مع الإعلاميين الإسلاميين قبل أيام – على إعادة رسم الصورة التي تأتي من الخارج. فنحن نهب للثقافات الأجنبية، وعلينا أن نتحسب لها.
من ذلك بالضرورة ما قال الأستاذ “هيكل”، الذي لا يرى في السودان إلا مجرد جغرافيا لا تاريخاً ولا واقعاً.. فالسودان ليس عنده أو فيه ما يشد الانتباه غير أنه فراغ جغرافي لا بشر فيه ولا مدر..!
وهكذا هو “هيكل”، الذي بررت ما قال يا باشمهندس ببعض الإخفاقات وأوجه القصور التي لا يسلم منها أحد، فرداً أو دولة، والمعالجات في كل الأحوال ضرورة.. فنسأل الله سبحانه المعافاة التامة من الغرض فهو مرض..!
وشكراً للأخ صاحب (حديث المدينة) الذي أتاح لنا هذه الفرصة، فالسيد “هيكل” يستحق وزيادة.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية