الطلاق السياسي والـخيانة الفكرية .. ظلم ذوي القربى أشد مضاضة!! (4)
{ وما زلنا نمضي بحديثنا في هذا الأمر وهذه السيرة (غير العطرة)، لنصل مرحلة البيع العلني للمبادئ والأفكار والالتفاف على الحق ولي عنق الحقيقة، وكذا محاولة فرض الأفكار بالعنف طوراً وبالتدليس والمكر أحياناً كثيرة.
{ شهد العام 1985م الزج بالعديد من الأبرياء والمفكرين والقادة وزعماء العمال إلى غياهب السجن والمعتقلات حتى امتلأت وضاقت عن آخرها في (أم درمان) و(كوبر) و(كوستي) و(دبك) و(شالا) و(بورتسودان) و(نيالا) و(الأبيض) وغيرها، وتمنت ساحات السجون أن تجمع ولأول مرة العديد من القيادات في زنزانة واحدة.. وعنبر متحد، ليسخر منا القدر لنجتمع ونحن أسرى ونفترق ونحن أحرار!
{ ولم يكتف النظام في ذلك العهد بذلك، بل أُصيب بلوثة فكرية جعلته ينقلب على أفكاره ومبادئه ليتخذ اتجاهاً راديكالياً متشدداً ويمنياً صارخاً، يسانده في ذلك العديد من أهل المصلحة من العلماء والأدباء ورجال الدين والدنيا كذلك.
{ وقام المقربون في ذلك العهد بتنصيب الراحل الأسبق “النميري” كإمام للقرن ومجدد دين الأمة وهم يعلمون أنه ليس كذلك، ولكن كان القصد الانتصار على خصوم الفكر والأنداد العقديين، وقد تم لهم ما أرادوا، فتم قتل وشنق وصلب الراحل “الواثق صباح الخير” كمثال للمواطن الذي يأخذ من الغني ليعطي الفقير، ولتكون بذلك رسالة لكل من يريد أن يقوم بدور البطولة محاولاً تعديل ميزان العدالة الاجتماعية المايل ميلاً شديداً وكل الميل نحو الأغنياء لا البسطاء ولا الودعاء والمساكين.
كما حدثت فضيحة فكرية أخرى وهي ما تعرض له الأستاذ الراحل “محمود محمد طه”، الذي تواطأ البعض على اغتياله ومحقه تماماً.
{ وكانت الصورة النمطية الذي زرعها الإسلاميون في عقول الناس عن الرجل الاشتراكي أو اليساري التقدمي، باعتبار أنه ذو مظهر غريب وغير منضبط أخلاقياً ويميل للسلوك السالب ولا يهتم بالدين وبعيد عن الله، وقد ساهم هذا البث الماكر في خلق حاجز نفسي بين اليساريين والشيوعيين وبين أفراد الشعب السوداني، على اعتبارهم مشركين ملحدين وغيرها من الأوصاف المنفرة.
{ لذا كان الأستاذ “محمود محمد طه” امتحاناً عسيراً عليهم لكونه دعا لسلم في وقت تعالت فيه طبول الحرب ولكونه أعطى مثلاً نادراً للاشتراكي الذي يكتب (تعلموا كيف تصلون) و(رسالة الصلاة) ويقيم حلقات الذكر يومياً، وبذا شكّل تحدياً كبيراً لـ (الفرمالة) التي اصطنعها إسلاميون وعاشوا عليه دون الدخول في جدل أو نقاش وتولوا يوم زحف الأفكار والحجج والبراهين.
{ ولم يكن أهل اليسار أحسن حظاً في هذا الموضوع، إذ أنهم أيضاً عانوا أشد المعاناة من وجود الجمهوريين، ومنبع ذلك يعود أيضاً للصورة النمطية للمتشدد الإسلامي بنظرهم وصورته كشخص ميسور الحال ممتلئ الجسم منتفخ الأوداج وبعيد عن الشعب ويتاجر بكل شيء وأي شيء، وكانت هذه الصورة مثل (خيال المآتة) لتخويف الناس من المد الإسلامي والأحزاب ذات الاتجاه الإسلامي، ونجحت في ذلك بنسب متفاوتة وإلى اليوم، نسمعها تتحدث عن الرأسمالية الطفيلية وتجار الدين وما شابه ويتخذونها شعارات وشعراً وخطابة، وهنا يجيء الأستاذ الراحل برغبة في تجديد الدين وتحريره من التكبيل والشرح على المتون ليكون منهاجاً للحياة ودستوراً للناس، ورافداً للبشرية ككل ومنبعاً للود والسلام والصفاء والتصالح والمحبة، كما أنه كان يرتدي زيه البسيط من العراقي والتوب والمركوب وهو المهندس المرموق في قطار بالدرجة الثالثة، وعندما سأله الناس لماذا؟ يجيب بكل بساطة (بركب درجة تالتة لانو القطر ما فيهو درجة رابعة).
{ ومن هنا حدث نوع من التحالف الخفي والاتفاق بين اليسار واليمين على التخلص من هذا الشخص المزعج فكرياً، وهذا ما تم بعد تقديم المنشور السياسي (هذا أو الطوفان) الذي هو منشور سياسي ليس إلا، بيد أن تلك النية المبيتة للنيل من الفكرة واغتيال الشخصية والقتل ونية الإهلاك ومحق تلك الاتجاهات كانت ظاهرة في الحكم عليه بالقتل شنقاً.
وبعد كل ذلك جاءت المحكمة العليا وأبطلت تلك الأحكام وبرأت “محمود” من ما نسب إليه وأزالت الحكم الظالم، لتخلد الدول العربية هذا المقتول المشنوق باعتبار يوم 18 يناير يوماً للاحتفال بيوم حقوق الإنسان العربي من كل عام!
ودع بابتسامة
ثم قال مع السلامة
قتلوه
فتسامى..
قطعوه
فتنامى..
وسيبقى رغم سجن الموت
يبقى غير محدود الإقامة!!
{ ونواصل