رأي

ليلتا الخامس السادس من يونيو (67)

} قضيت ليلتي (5) و(6) يونيو 1967م داخل حراسة سجن أم درمان، لأني استجبت لنداء الزعيم “جمال عبد الناصر” بمقاومة القوى الاستعمارية بكل ما نستطيع، لأن (انجلترا) و(أمريكا) تشاركان في الغارات ضد (مصر).. ملأتني نداءات إذاعة (صوت العرب) حماساً.. فخرجت من البيت دون أن أحدد وجهتي، وكنت كلما وجدت مجموعة تتناقش حول الحرب أؤكد لهم أن الجيش المصري سينهي الحرب لصالحه.
} ولما لم تكن لدي وجهة محدودة، فقد ركبت البص وذهبت إلى منطقة وسط الخرطوم وأنا في غضب شديد، وفجأة لمحت تظاهرة تتجه إلى السفارة الأمريكية، وكانت آنذاك بشارع الجمهورية، ولكن الشرطة أمرتنا بالابتعاد ومنعتنا عن التقدم، وهنا صاح أحدنا (النادي الأمريكي ليست به حراسة)، ولما كنا لا نعرف موقع هذا النادي فقد تبعنا هذا الشخص، وتبعناه في هتافه ضد أمريكا والاستعمار.
} وعندما وصلنا للنادي وجدناه خالياً، فأخذ بعضنا يحطم الكراسي وكل ما يجده أمامه، وفجأة هجمت علينا مجموعة كبيرة من رجال شرطة الطوارئ، وكنت مع المجموعة التي أُلقي القبض عليها، ورُحلنا إلى سجن أم درمان، وكان معنا بعض الأطفال الذين لا يتجاوز عمرهم العاشرة، وكانوا يبكون طوال الليل لدرجة اضطررنا لزجرهم لأننا مناضلون، والمناضل لا يبكي مهما كانت الظروف، وأخذنا نحدثهم عن أهمية ما قمنا به من عمل نضالي، ولم أكن أنا أكبر هؤلاء الأطفال كثيراً لأني كنت بالصف الأول الثانوي.
} أمضينا الليلة في الحراسة مع بكاء الأطفال و(صمودي) في وجه الامبريالية والاستعمار استجابة لنداء الزعيم “عبد الناصر”، وانقطعت عنا كل الأخبارن حيث ظللنا داخل الحراسة لعدة أيام.. وعلمنا في اليوم الأخير لنا بالحراسة أن “عبد الناصر” استقال ثم عاد.. وأخيراً أطلق سراحنا بعد ثلاثة أيام أو أربعة، وكان أهلي يبحثون عني في كل أقسام الشرطة حتى عثروا عليّ في سجن أم درمان.
} وما عرفته منهم أن والدي اتصل بأحد الوزراء وكان من أقربائنا وطلب منه التوسط لإطلاق سراحي، وحدد لمحاكمتنا يوم، ولم أحتج إلى دفاع قوي لكي أؤكد براءتي، لأن الشرطي قال إنهم قبضوا عليّ داخل النادي، بينما أكد زميل أنهم قبضوا عليّ خارجه، وهكذا حصلت على البراءة فوراً.
} ولكني خرجت مزهواً بما يؤكد أنني ناضلت، وصرت أفخر بين أقراني في مدرسة (الخرطوم الجديدة) بأنني (ناضلت) ضد الامبريالية والاستعمار.
} بعد فترة كنت أسير في أحد شوارع الخرطوم وقابلت الطفل الذي كان يبكي طوال الليل، ولما سخرت منه قال لي إنه تعمد ذلك حتى يطلق سراحنا، وإنه اتفق مع رفيقه الطفل الآخر على ذلك البكاء.
ولكنه قال لي معلومة جعلتني أشك في المشاركين في التظاهرة، فقد قال لي إن بعض المشاركين وجدت بحوزتهم معلبات تخص النادي، مما يؤكد قيامهم بالسرقة، وأنهم لم يشاركوا في التظاهرة إلا بقصد السرقة. وفي أحد الأيام قابلت أحد الذين اتهموا بالسرقة، فقال لي إن القاضي حكم عليه بعشرين جلدة وأطلق سراحه بعد الجلد، وأكد لي أنه لم يسرق بل وجد المعلبات ملقاة في الطريق فأخذها معه، وإن كل المتهمين حصلوا على البراءة أخيراً بعد أن دفعوا ضريبة النضال ضد الامبريالية، وهكذا تأكد أن أقوى المواقف قد يفسدها أحد الأطفال ببكائه أو بسرقته.
} سؤال غير خبيث
هل ترى أن ما قمت به كان نضالاً؟!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية