الترحال والحنين!
ثمة علاقة وطيدة بين الترحال والحنين جسدها بلغة شعرية ناعمة الشعراء القدامى وخاصة شعراء المعلقات منهم الذين تصدرت قصائدهم أشواقهم وحنينهم للأحبة، بعد أن أصبحت ديارهم مجرد أطلال بسبب الترحال الدائم والمستمر.
إن رحلة الشعراء القدامى في تتبعهم لمواقع الغيث ومنابت الكلأ كانت رحلة عامرة بالحنين الذي أجادوا وصفه في أشعارهم بطرق شديدة الرهافة والشفافية تمازج بين الحزن على الفراق والأمل باللقاء، مستلهمين في ذلك الذكريات التي تضج بها الذاكرة الشعرية بشكل مفرط ومؤهل كي يمنح القصيدة بعدها الإنساني النبيل والرفيع.
وها هو “امرؤ القيس” يدشن معلقته بأبيات تحتبس الدمع حزناً على ما مضى، ووفاء لما استقر في القلب من تذكار لا يمحى فيقول:
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِِ
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمُها
لما نسجتها من جنوب وشمألِ
وها هو “طرفة بن العبد” يتملكه الحنين، فيجتر الذكريات بالبكاء على الأطلال وإظهار الأسى على الحبيبة فيقول:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد..
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليدِ..
وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيُّهم..
يقولون لا تهلك أسىً وتجلَّدِ
أما “لبيد بن ربيعة” فيرصد مشهد الحنين ونبرات الوهج ونبرات اللوعة.. لكنه يتلظى بنار الفراق أكثر من سابقيه لدرجة تجعله يخاطب تلك الديار رغم أنها مجرد آثار صماء لا تستطيع الكلام ولا تقوى على البوح فيقول:
عفت الديارُُ محلها فمقامُُها
بمنى تأبد غولها ورجامُُها
رزقت مرابيع النجوم وصابها
ودقُُ الرواعد جودها فرهامُُها
إلى أن يقول:
فوقفتُُ أسألها وكيف سؤالنا
صماً خوالد ما يبين كلامُُها
إنه الحنين يتربص بذاكرة الشعراء.. يجعلها خزانة للدمع ينسكب من عيونهم شعراً حاراً، ونابضاً يؤجج في الذوات العاطفة ويجعلها دفاقة بالسؤال الأزلي المعقد حول مفهوم الغربة المكانية من جهة والغربة النفسية من جهة ثانية.. هذا السؤال الذي مازال يطرح نفسه بقوة حتى في قصائد المحدثين والمعاصرين الذين افتعلوا حنينهم الخاص بأساليب شعرية جديدة، لكنها تظل تدور في ذات المنظومة المتوارثة والتي وضع أولى حلقاتها الشعراء القدامى بين ما تركوه لنا من معلقات وقصائد نموذجية في غربتها وترحالها وحنينها!.