نائب رئيس بعثة دولة جنوب السودان بالخرطوم "كاو نك مفير" يروي لـ (المجهر) تفاصيل ما حدث (1 – 2):
على نحوٍ ربما لم يكن مفاجئاً للكثيرين، تفجرت الأحداث بشكل مباغت في دولة جنوب السودان أمسية (الاثنين) 16 ديسمبر الجاري، وتصاعدت الصراعات المسلحة، وسقط القتلى وتناثرت الدماء، واستعصى على الكثيرين توصيف ما يجري، هل هو تمرد في داخل الجيش والحزب.. هل هو محاولة انقلابية.. أم حرب قبلية؟!
وزادت الأسئلة متناولة المآلات المتوقعة للأحداث – أيا كان توصيفها – على مصير الاتفاقيات المشتركة بين دولة الجنوب والسودان.. وهل أزمة الجازولين الأخيرة بالبلاد كانت انعكاساً لما يجري في الدولة الجارة.. وكيف تنظر “جوبا” لموقف “الخرطوم” من الأحداث.. وماذا يتوقع إزاء جهود الوساطة بين الطرفين المتصارعين؟!
كل هذه الأسئلة وغيرها حملناها ووضعناها أمام نائب رئيس بعثة دولة جنوب السودان بالخرطوم “كاو نك مفير”.. وكان هذا الحوار:
} سعادة السفير.. كيف هي الأوضاع الآن في الجنوب؟
– تقييم الأوضاع يتوقف على المتحدث والطريقة التي يقيم بها الأحوال.. أنا أقول لك إن الوضع هادئ وليس هناك مشكلة، لكن شخصاً آخر قد يقول لك إن الوضع صعب جداً.
} في تقديرك أنت، وحسب ما يتوفر لديك من معلومات، كيف هو الوضع الآن؟
– في رأيي أن الوضع هادئ في الجنوب. نعم هناك أناس يقولون نحن نتبع لـ “سلفاكير”، وآخرون يقولون نحن نتبع لـ”مشار”.. لكن الجيد في الأمر أنه ليس هناك أي مناوشات عسكرية الآن.. هناك حرب إعلامية.. ما يحدث هو حرب إعلامية أكثر من كونه حرباً على الميدان.. هذا هو الواقع.
} كيف تفجرت الأوضاع.. ما الذي حدث بالضبط؟
– بالطبع أنا لا أستطيع أن أعود معك بالأحداث إلى وقت طويل، ولكن بالنسبة للدكتور “رياك مشار” فهو كان عضواً في مجلس قيادة الحركة الشعبية حتى العام 1991م، ثم حدث ما جعله يعتقد أن الحركة الشعبية تفتقر إلى الديمقراطية، وأن القرارات في داخلها تصدر بصورة فردية.
لكن الخطط السياسية يمكن أن تناقش بشكل ديمقراطي وبطريقة تفصيلية، أما العسكرية فتتطلب أن لا يتم مناقشتها بطريقة تفصيلية وأن لا يعرفها كل أحد.
} تعني أنه لا مجال للديمقراطية في ما يخص جيش الحركة وخططه العسكرية؟
– نعم.. نعم. بالنسبة للحركة الشعبية كتنظيم سياسي كانت هناك ديمقراطية، لكن بالنسبة للقضايا العسكرية فالديمقراطية كانت بنسبة (50 %). و”رياك مشار” – منذ وقت طويل – ما كان موافقاً على هذه الطريقة التي يسير بها د.”جون قرنق” الحركة، وكان يشعر بأنها طريقة غير ديمقراطية، وأيضاً كان لا يتفق مع أجندة “قرنق” التي تقول بتحرير السودان، وكان يرى أنه من المفروض أن يركز على تحرير الجنوب.
} هل”مشار” كان اتجاهه انفصالياً؟
– نعم.. وهذا كان موضوع خلافه، ولهذا السبب انشق عن الحركة الشعبية وأعلن نفسه قائداً للحركة الشعبية من الناصر، ولكن.. ولأنه لم يجد الدعم الكافي من المناطق.. لم يكن أمامه مفر غير أن يلجأ إلى الاتفاق مع الحكومة السودانية.. والغريب في الأمر أنه – وهو الذي كان ينادي بالانفصال – اتفق مع حكومة السودان التي كانت تحارب من أجل السيطرة على السودان كله! لكن لظروف عسكرية هو لجأ إليها واتفق معها، وهناك نظرية عسكرية تقول (عدو عدوك صديقك) وهو رأى أنه بالإمكان أن يستخدم هذه النظرية، طالما كان هو ومجموعته يحاربون الحركة الشعبية، والحكومة السودانية أيضاً تحارب الحركة الشعبية.. أنا سردت هذه القصة لأقول إن هذه ليست المرة الأولى التي يقوم فيها د.”مشار” بمثل هذه العملية.
} تعني أن لما يجري الآن جذور؟
– ما يجري الآن عنده جذور ترجع إلى سنة 1991م. “رياك مشار” قام بكل ما قام به والجنوبيون لم يتفقوا معه، وعاد مرة أخرى إلى الحركة في العام 2004م، وجاءت اتفاقية السلام الشامل، وبعد اتفاقية السلام الشامل وبوفاة القائد د”جون قرنق”، “رياك مشار” وجد نفسه في المركز الثاني بالحركة الشعبية، وطبعاً وحسب الترتيب في داخل الحركة الشعبية كان من المفترض أن يكون “جيمس واني” هو الرجل الثاني، ولكن الاتفاق الذي كان قد جرى بين “مشار” والحركة الشعبية جعله هو الرجل الثاني في الحركة الشعبية وفي حكومة جنوب السودان، وأصبح نائب الرئيس في الحركة ونائب الرئيس في حكومة جنوب السودان. ويمكن أن نقول إنه كان قائداً للحركة الانفصالية، ولكن للضرورة الآن رجع إلى الحركة الرئيسية التي هي الحركة الشعبية لتحرير السودان.. ولكن طبعاً رغبته ستكون هي أن يعتلي القمة.. هذه الرغبة لم تمت عند “مشار”.. وهو يرى أن “سلفاكير” يقوم بالتصرف إزاء ملفات، وتصرفه ما كان يجب أن يتم بهذه الكيفية.
لكن كل هذه الاختلافات كان بإمكان “مشار” أن يناقشها مع “سلفا” عبر المؤسسات، سواء مؤسسات الحكومة أو مؤسسات الحزب.. وهو الرجل الثاني في الحزب وفي الحكومة.. كانت أمامه فرص كثيرة لأن يقول رأيه ويقنع الآخرين.. بدلاً من هذا الاتجاه الذي سار فيه.
} إذن ما يجري الآن نتيجة لتطلعات “مشار” لأن يكون هو الرجل الأول؟
– بالضبط، هذه هي الحقيقة. كان هناك نداء من أعضاء كثيرين في الحركة الشعبية، بأنه يجب إقرار دستور جديد، بعد الذي أقر في 2008م، وأن تعمل الحركة على تنظيم وتسجيل نفسها. الحركة الشعبية في العام 2008م سجلت كحزب سياسي، لكن هذا كان قبل الانفصال، والآن الجنوب أصبح دولة مستقلة، وكان يتوجب على الحركة وعلى كل الأحزاب أن تعمل على تنظيم وتسجيل نفسها في جنوب السودان كدولة مستقلة.. ولا بد أن يحدث تكوين جديد للحركة. وحتى تحدث هذه الأشياء لا بد من إقرار (منفستو) ودستور وقوانين ولوائح للحزب.
} يبدو أن “مشار” كان غاضباً بسبب أن ذلك لم يحدث؟!
– بعد الانفصال حدثت أشياء كثيرة، وكانت العلاقات بين الدولتين سيئة، والناس وصلوا إلى مرحلة الحرب، والرئيس “سلفا” – الذي كان عليه أن يدعو إلى التغييرات المطلوبة – صار مشغولاً بتحسين العلاقات وحل المشاكل التي حدثت بعد الانفصال والقضايا العالقة المتبقية من اتفاقية السلام. وفي العام 2012م كان يفترض أن تجهز الحركة أوراقها وتكون جاهزة لتنظيم نفسها، لكن هذا لم يحدث بسبب انشغال “سلفا” كما قلنا، والوقت الذي تقرر أن يجري فيه الاجتماع للقيام بهذا العمل صادف وفاة رئيس جنوب أفريقيا السابق “نيلسون مانديلا”.. لكن “رياك مشار” اعتقد أن “سلفاكير” لا يريد أن يصنع مؤسسات للحزب، فقرر مع مجموعة، وقالوا: (والله ياخي الزول دا لو ما داير يعمل الكلام دا.. أو لو ما قادر.. خليهو يمشي من قيادة الحزب)!! وتوفرت معلومات للحكومة بأنه (ستكون هناك محاولة انقلاب لو لم تعقد هذه الاجتماعات أو لو لم تسر الأمور بصورة مرضية لـ”مشار”.. ولو مشت بالصورة التي يريدها فلن تكون هناك محاولة انقلاب). و”رياك مشار” قام بالاتصال بمجموعته وأجرى اتصالاته داخل الحزب وداخل الجيش.. وأصبح جاهزاً.. وعندما رجع “سلفا” من جنوب أفريقيا لم ينتظر، ودعا للاجتماع مباشرة في يوم 15/12 والناس جلسوا وبدأوا في مناقشة الأوراق التي كانوا قد جهزوها حول تنظيم الحزب.
} وكيف جرى النقاش حول الأوراق؟
– طبعاً الديمقراطية في دول العالم النامية والعالم الثالث بصورة عامة، تقوم على أنك إذا لم تفز أو لم تمضِ الأمور كما تحب، فهذه بالنسبة لك ليست ديمقراطية.. لكنك لو فزت ستقول نعم هذه هي الديمقراطية. وبالنسبة للنقاش حول الأوراق في الاجتماع.. كان هناك أشياء في (المنفستو) والدستور “رياك مشار” اختلف مع الناس حولها.. لكن الأغلبية وافقت عليها، والأوراق تم اعتمادها وأصبحت هي الرسمية للحزب، ومن المفترض أن يبدأ بعد ذلك تكوين الحزب.
وفي الاجتماع الأخير يوم (الاثنين) 16/12 الذي كان قد التأم لمناقشة مشكلة الأمين العام “باقان أموم”.. لم يشارك فيه “مشار” ومجموعته.
} وما هي تفاصيل مشكلة “باقان أموم”؟
– “باقان” أيضاً كان عنده تطلعات ورغبة في أن يدخل في الانتخابات مرشحاً لرئاسة دولة جنوب السودان (هو برضو كان عنده رأي).
} كان يريد أن يدخل مع “رياك مشار”؟
– لا.. كان يريد أن يترشح بمفرده.. وبدأ أيضاً تحركاته. وطبعاً قانون الحزب لا يسمح له بأن يقوم بهذا، ورئيس الحزب – رئيس الحركة – اتخذ إجراءات إدارية بشأنه، وتم حبسه، وكونوا لجنة للتحقيق معه، ونتائج التحقيق قررت أن (الزول دا يشيلوه بره من منصبه).. هذا هو الموضوع الذي كان من المقرر مناقشته في الاجتماع مساء (الاثنين).. ولكن “رياك مشار” ومجموعته لم يأتوا إلى هذا الاجتماع.. وظهرت ملامح تحرك عسكري.. والناس شعروا بهذا التحرك في داخل كتيبة تتبع لرئاسة الجمهورية حوالي الساعة العاشرة من مساء ذلك اليوم.