أخبار

الغـــــياب..!

ما أقسى دفتر الحضور والغياب.. كان حين يوقع حضوره يرقب بشكل خاطف الغائبين فيجدهم يزدادون كل يوم.. وكلما وقع حضوره انتابه إحساس دفين بأن هذا الحضور ربما يكون الأخير..!
لم يتأخر طوال التحاقه بهذا العمل دقيقة واحدة.. كان منضبطاً لحد مذهل.. أما الانصراف فقد كان آخر الذاهبين وعادة ما يشعر باستياء الموظف القائم بهذه المهمة.. فيراه يغلق الدفتر مسرعاً ويضعه داخل درج المكتب ويهم منصرفاً بعد ثرثرة لا يسمع مضمونها أحد..!
هذا الشاهد اليومي على الحضور والغياب.. هل مطلوب منه أن يوقع أيضاً على حضوره.. ماذا لو غاب يوماً.. لكنه لم يغب أبداً.. كان الوحيد الذي ينافس صاحبنا في البكور جيئة والإبطاء ذهاباً!
هذا الصباح كان الدفتر خالياً تماماً من الحضور.. وقف يرمق الصفحة البيضاء باحثاً عن الموظف المسؤول.. بدوره لم يجيء.. خبر يستحق أن يتصدر عناوين صحف هذا الصباح.. أين ذهب عم حامد.. أين هم الموظفون.. لا أحد يجيب.. من الذي وضع الدفتر على الطاولة إذن؟
وبشكل لا إرادي وجد نفسه يجلس على طاولة الحضور والانصراف.. وكلما مضى الوقت شعر بأن كارثة ما قد حدثت.. وبشكل لا إرادي أيضاً أخذ يكتب أسماء كل الموظفين ويوقع بالنيابة عنهم.. اعتصر ذاكرته بشكل مرهق حتى لا ينسى أحداً.. هو يعرف أن العدد الكلي هو مائة شخص.
لكنه فشل في معرفة وتذكر الشخص رقم مائة.. الموقعون (99) موظفاً فقط… أين الموظف رقم مائة؟!
وهو يرفع رأسه إلى أعلى سقف حجرة الحضور والانصراف التي تقع في مدخل الشركة.. رأى صورته تنعكس من على شباك زجاجي في يمنة السقف.. ابتسم وضحك إلى حد القهقهة.. إنه أنا.. أنا الموظف رقم مائة.. الآن فقط اكتمل العدد والآن فقط اكتمل الغياب!
ويرن الهاتف على طاولة (الموظف الغائب.. يرفع السماعة)..
ألو..
لا.. أنا زميل له.. إنه لم يحضر اليوم.. الجميع لم يحضروا.. أنا وحدي هنا.. لا أعرف.. ربما ذهبوا لتعزية أو معاودة أو مشاركة أحد الزملاء في فرح أو ترح.. أو .. ربما.. ربما سافروا في مهمة عمل.. لا أعرف طبيعتها.. فأنا لم يدعوني أحد.. ولماذا تريد معرفة اسمي.. عذراً سيدي.. لم أعرفك.. أنت رئيس الشركة.. أهلاً بك يا سيدي.. هل تقول إن عليّ الانصراف.. وعدم التوقيع في دفتر الحضور والغياب..
هل تقول إن اليوم عطلة رسمية.. لم أكن أعرف.. أنني أقدم لك خالص اعتذاري بسبب حضوري في يوم الغياب.. سأنصرف حالاً يا سيدي.. سأمزق دفتر الحضور والغياب.. (99) موظفاً لم يحضروا اليوم.. ولا أنا أيضاً.. كلنا غياب..!.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية