المشهد السياسي

دولة الجنوب والنأي عن الأزمات..!!

لم تكن الإدارة البريطانية في مؤتمر جوبا 1947م بعيدة عن الواقع والموضوعية – وهي صاحبة فكرة فصل الجنوب عبر المناطق المقفولة (Close of Districts) – عندما رأت في ذلك المؤتمر أن يظل جنوب السودان في وحدة وصلة وثيقة بالشمال يومئذ، لغرض اكتساب الخبرة والإفادة مما لديه من إمكانات. عليه، ورغم ما حدث بتوريت في 18 أغسطس 1955م، وقف القادة الجنوبيون مع قرار الاستقلال في 19 ديسمبر 1955م، رغم ما اشترطوه من لا مركزية في الجنوب بعد الاستقلال.
ولم يكن للعقيد “جون قرنق” – رغم مانيفستو حركته الشعبية الذي كان شعاره (السودان الجديد New Sudan) عبر البندقية – أن يلجأ في ما بعد إلى الحل السياسي عبر الحوار والتفاوض، وهو ما انتهى إليه في اتفاق نيفاشا يناير 2005م، الذي قضى بقسمة السلطة والثروة وخيار تقرير المصير بعد ست سنوات كان المفترض فيها أن تكرس للوحدة، غير أن رحيل القائد “قرنق” المبكر في 30 يوليو من نفس العام فتح الباب لشراكة غير ذكية أو موضوعية بين طرفي الاتفاق، فسارت الأمور على غير الطريق والثقة وحسن الظن الذي كان يعمل به العقيد المؤسس، ذلك أن من كانوا يعرفون بـ (أولاد قرنق) انحرفوا بالمسار الذي انتهى إلى انفصال إعمالاً لقرار تقرير المصير.. ولم يقف الحال عند ذلك الحد، وإنما عملوا عبر (هوس) السودان الجديد على توتير العلاقات بين الدولتين الجارتين، اللتين كانت إحداهما حديثة الولادة وفي أمس الحاجة إلى جارتها (جمهورية السودان)، فكان ما عرف بـ (قطاع الشمال) وقياداته، التي كان كل ما في جعبتها (عكننة) النظام الحاكم في جمهورية السودان عبر:
– إثارة القلاقل والبلبلة في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، اللتين ظلتا محل تمرد وحرب وقلق أمني، ومصدر إهدار للموارد والطاقات وتفكيك للنسيج الوطني والاجتماعي.
– الحراك الخارجي الذي ضاعف من العزلة الدبلوماسية والسياسية بين جمهورية السودان والدول الخارجية التي لم تكن بحاجة إلى المزيد من حصارها ومقاطعتها المعروفة.
وليس هذا وحده، إنما علاوة على ذلك كان تعطيل المصالح والمنافع بين الدولتين الجارتين – جمهورية السودان وجمهورية جنوب السودان – فكان عدم تدفق النفط الجنوبي عبر خطوط أنابيب ومعينات الصادر في جمهورية السودان.. بل وعبر الهجوم على منابع النفط في (هجليج) كان امتداد ذلك الأسر الثالب إلى تعطيل آليات العمل في الحقول.
هذا بالضرورة، وقد استمر أثره طوال العامين الأولين لقيام دولة جنوب السودان، كان له تأثيره على مصادر العائدات التي من المفترض أن تدعم موازنة الدولة وهي التي تشكل قرابة الـ(90%) من مصادر دخل تلك الموازنة، غير أن (الحماقة أعيت من يداويها..!)، وقد فتح ذلك الباب لأصدقاء الجمهورية الوليدة من حكومات غربية ورموز لأن تصرح وتجاهر بالقول إن حكومة جمهورية جنوب السودان حكومة فاشلة، ومؤشرات الفقر والعطالة فيها تشكل أرقاماً خرافية. والمواطن الجنوبي لم يشعر بأن ثمة جديداً أو ما يدعو للتفاؤل في جمهوريته الجديدة الوليدة.
إن (أولاد قرنق) من صلبه السياسي، “باقان” و”عرمان”، كانا هما السبب في ذلك كله، لأن مصلحة المواطن الجنوبي لم تكن لها الأوليه في أجندتهما، وإنما إزالة النظام الحاكم في الشمال ومن ثم الوصول إلى (السودان الجديد العلماني الاشتراكي الموحد)..! وهذا كله في ضوء الواقع ليس سوى (أحلام ظلوط..!) كما يقولون. ذلك إن عشرين عاماً من رفع السلاح في وجه ذلك النظام، وهي المدعومة يومئذ بأطياف المعارضة في شمال السودان والسند والدعم السياسي والدبلوماسي والاقتصادي الأجنبي، لم تحقق ذلك الغرض، وإنما انتهى الزعيم والقائد “جون قرنق” إلى العمل بالسياسة عوضاً عن السلاح والبندقية – كما سبق أن قلنا.
لقد اضطر الفريق “سلفاكير” زعيم الحركة الشعبية ورئيس الجمهورية الوليدة، إلى طرح هواجس ووساوس (أولاد قرنق) جانباً، والعودة إلى العقل ومخاطبة شؤون وشجون المواطن الجنوبي الذي يحتاج إلى لقمة العيش والخدمات الصحية والتعليمية والبنى التحتية، فكانت عودته إلى التفاهم وتبادل المنافع والمصالح مع جمهورية السودان، ومن ثم كانت جولات التفاوض المتلاحقة في أديس أبابا وصولاً إلى الاتفاق الذي أعاد المياه إلى مجاريها، ومنه كما هو معلوم:
– أولاً: عودة النفط إلى التدفق والصادر عبر خط الأنابيب والمعينات الفنية والموانئ السودانية.
– ثانياً: فتح الحدود وتأمينها لتتدفق السلع والبضائع وصولاً بها إلى دولة الجنوب.
– ثالثاً: العمل المشترك بين الجمهوريتين لإلغاء ديون جمهورية السودان وتحسين العلاقات السودانية مع العالم الخارجي.
وبالضرورة، هناك الأمن القومي بين الدولتين، ومعالجة قضية الحدود وسائر القضايا العالقة في اتفاق سلام نيفاشا.. وهذا كله بطبيعة الحال مما لم يكن ليروق لـ (أولاد قرنق) ولخصوم الفريق “سلفا” السياسيين، وعليه كانوا يعملون دوماً لإعاقة وتعطيل ذلك الاتفاق الذي باركه الكثيرون في المحيط الأفريقي والعربي وغيرهما.
إن العلاقة بين الجمهوريتين (جنوب السودان والسودان) على النحو الذي بات مشهوداً في الفترة الأخيرة، وتبعته إجراءات وملاحقات كانت خصماً على مشروع (أولاد قرنق) وحلفائهم من جبهة ثورية وجماعات تمرد دارفورية وقوى إجماع وطني في الخرطوم، لا تصب في مصلحة أولئك، وإنما في مصلحة الحكومة الجنوبية والمواطن الجنوبي الذي لم يذق طعم جمهوريته الجديدة، وتصب لا ريب في مصلحة المواطن في جمهورية السودان، وقد ظلت حكومته تشكو من تدهور الاقتصاد والبيئة الأمنية جراء ما يحدث في جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور.
ودولة جنوب السودان التي أصبح (أولاد قرنق) من همومها، قامت في الفترة الأخيرة ببعض الإجراءات التي تمخضت عنها قلاقل وتفلتات شملت آخرين لا يحسبون في قائمة (أولاد قرنق) كالدكتور “رياك مشار”، وقد ترتب على ذلك أن تمدد الحال إلى صراع عسكري مسلح احتلت فيه مدن ووصل إلى حقول النفط، وأثار قلق الكثيرين في الداخل والخارج، مما دعا الفريق “سلفا” إلى طرح فكرة الحوار مع الدكتور “مشار” وآخرين حتى لا ينحو الخلاف منحى قبلياً، فالدكتور “رياك مشار” من قبيلة (النوير) التي تقع حقول النفط الكبرى في أراضيها.
مهما يكن من شيء، فالحوار في الداخل من ضرورات المرحلة وترتيباتها في جمهورية جنوب السودان، شأن الاتفاق وتبادل المصالح والمنافع مع جمهورية السودان ودول الجوار الأخرى.. وذلك بغرض النأي عن الأزمات وتطوراتها السالبة، التي تبدو للعيان في البلاد الأفريقية والعربية وغيرها مما يقود إلى التدخل الأجنبي وتعاطيه في الشؤون الوطنية، إذ كما تعاطت فرنسا في ما جرى بجمهورية أفريقيا الوسطى فربما تعاطت الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل في الشأن بجمهورية جنوب السودان.
وعليه، فإن ميل الرئيس “سلفاكير” وطرحه الحوار مع خصومه السياسيين يعبر عن الكثير من العقل والحكمة، فالنأي عن الأزمات وتجاوزها من أدوات الحكم الراشد، الذي يتطلع إلى أن يحقق مكاسب وميزات لشعبه.. والمطلوب في هذا الظرف أن يستجيب الآخرون للحوار والتفاهم تجاوزاً لما هو غير مطلوب أو مرغوب، فالعبرة بما يجري في بعض البلاد، والجنوب الذي خرج من عقود من الحروب وعدم الاستقرار لا ينقصه أن يعود الآن إلى ما سبق جراء الهواجس والوساوس التي أطاحت وتطيح بكل شيء. والطموح السياسي لا يتحقق بالخلافات والصراعات وحدها، وإنما بالحوار والوسائل المشروعة والديمقراطية أكثر من غيرها.
وليس أمامنا أو في وسعنا ونحن نشاهد ونرى ما نرى في جمهورية جنوب السودان وقبلها في الدول الأخرى، إلا أن ندعو إلى تجاوز الأزمات والحوار آلية للحكم الراشد والصالح الذي يلبي مطالب المواطنين من سلام واستقرار وتنمية.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية