رأي

عـــــــــــــائلة الـــــدفء..!!

اليوم الجمعة.. جميعنا حضور أنا “سامية” و”ماجدة” و”إلياس”.. بالطبع لم يتخل عن تمرين كرة القدم لكنه عاد من بعده مباشرة, ظل والدي “عبد الرحيم” ممسكاً بهاتفه في انتظار مكالمة “فاطمة” أختي ومن أول رنة للهاتف رد عليها: (أهلاً “فاطنة”.. أهلاً.. إزيك الأولاد و”طه”, كيف عاملة مع الحساسية دواك لازم يكون معاك طوالي.. الدكتور خفض ليك الجرعة, كويس والله, الحمد لله , أيوة “ماجدة” كويسة أنا متابع معاها, نحنا كويسين، “فاطنة” خلي بالك من صحتك) وحول والدي الهاتف من يده اليمنى إلى اليسرى ومسح عينيه ودموعه.. فـ”فاطمة” هي أمنا من بعد وفاة أمي رحمها الله.. كانت يومها صبية، ورغم نجاحها في الدراسة فقد آثرت التضحية بتعليمها من أجلنا وحفظ لها والدي جميلاً لا يُنسى كما حفظ الإخلاص للعزيزة الراحلة، فلم يُدخل علينا امرأة أخرى رغم كل رجاءات أخواته وترشيحات أصدقائه, وحسم والدي النقاش: (الزواج قناعة شخصية وأنا قررت اكتفي بذكرى “زينب” عليها الرحمة).. في هدوء أخذت الهاتف من والدي وتحدثت مع شقيقتي: (أيوة يا “فاطمة”, إزيكم, بصراحة شلتوا البيت معاكم, يا ستى المذاكرة تمام, “أمجد” و”زيزي” كيفهم؟؟ حاضر تاني ما حاقول ليها “زيزي”.. حاضر.. اسمها “زينب”, سلمي على “طه” لمن يجي من الشغل).. خطف “إلياس” الهاتف من يدي ومن بعده تحدثت “ماجدة” طويلاً مع “فاطمة” فحتى حاجز المكان لم يفلح في إبعادنا عن بعضنا.. لا زلت أذكر ميلاد “زينب” الصغيرة فقد حضرت أختي للولادة بالسودان.. جميعنا عشنا معها اللحظات المشحونة بالقلق والانتظار والألم.. وتحول ميلاد الصغيرة إلى فتح العزاء على أمي من جديد، فالجميع يعلم أن القادم الجديد طفلة وستحمل اسم “زينب”.. يومها امتزج الحزن بالفرحة بالامتنان، وها هو اسم أمي يعود من جديد ليملأ دارنا, ولم تغادر “فاطمة” سريعاً مكثت معنا قرابة العام ومنذ ولادة “زينب” تحضر سنوياً لقضاء الإجازة معنا.. حقيقة لا أستطيع تحديد عاطفتنا نحو هذه الصغيرة الرائعة، وإن كنت أعلم جيداً أنها باتت محور حياتنا خاصة والدي.. حتى أن “أسعد” شقيقها كان يغار من هذا الاهتمام الزائد فيجبر “طه” والده بخاطره قائلاً: (سيبك منها حتطلع مدلعة, لكن أنت راجل والراجل…) فيكمل أسعد الجملة بصوت يحاول أن يضيف إليه عشرة أعوام (والراجل ما بيدلعوه).. كما وعدت أختي وأمي، فقد اجتهدت كثيراً في دراستي، بل تفوقت فيها فكافأني أبي بسفري إلى أختي وقضاء الإجازة معها، وإن جاء ذلك في ظروف المرض المفاجئ الذي ألمّ بزوجها.. في المطار استقبلني “يحيى” صديق “طه” و”أسعد”.. وصلنا المنزل سريعاً حيث استقبلتني “فاطمة” و”زينب” عند المدخل بدون سابق إنذار بكينا طويلاً.. أحسست أن مرض “طه” قد ألقى بظلاله على الكل.. قادني “أسعد” إلى والده الذي حاول الجلوس مرحباً بي، إلا أنني طلبت منه أن يرتاح، وهالني التغيير الكبير الذي طرأ على صحته، ولكنه ابتسم قائلاً: (أهلاً بيك يا “سامية” وألف مبروك النجاح, إنت طوالي مشرفانا ورافعة رأسنا) عندها لم أتمالك نفسي وأجهشت بالبكاء فـ”طه” كان لنا دائماً بمثابة الأخ الأكبر، وهذه مكانة صنعها لنفسه بيننا بتعامله وأخوته الصادقة, ورؤيته وقد أنهكه المرض أوجعتني, مسح “أسعد” دموعي قائلاً: (يا خالتو ما تبكي, أبوي بقى كويس والدكتور قال بس لازم يستريح شوية).. ابتسمت من خلال دموعي وحاولت أن أتمالك نفسي خاصة أمام الصغيرين.. في ذلك المساء حدثتني “فاطمة” عن مرض “طه”.. بلا سابق إنذار جاءوا به محمولاً من مكان عمله ليدخل في دوامة من الفحوصات.. ليست هناك علة محددة, هو يرهق نفسه كثيراً ويوصل نهاره بليله.. سألتها: (وإنت وين يا “فاطمة” ليه ما بتتكلمي معاه) ردت: (كل ما أتكلم معاه يقول لي عُمر الشقي بقي, ما تقلقي عليّ, أنا عايز أختصر الزمن على “أسعد” و”زينب” وعايزهم يرتاحوا لمن يكبروا وأوفر ليهم كل احتياجاتهم).. أجبتها: (لكن المعقول معقول, أهو النتيجة بقت إنو تعب وأرهق نفسو لمن مرض يعني شنو؟ عايز لمن يموت من التعب؟؟).. أطرقت أختي طويلاً فقد فتح كلامي جرحاً قديماً عندها, فهل ستضعها الأقدار أمام مشوار جديد من المسؤولية الأحادية؟؟ مر الأسبوع الأول من زيارتي لأختي.. رويداً رويداً تحسنت حالة “طه” وبدأت العافية تطرق على جسده طرقات ضعيفة إلا أنها متتالية وبدأ الجلوس على الكرسي تاركاً فراش المرض, ثم بخطوات متعبة كان خروجه للصالة ويومها كان احتفالاً حقيقياً.. لاحظت أن “يحيى” صديقه لم يفارقه طيلة فترة مرضه حتى تماثله للشفاء.. ذات مساء وجميعنا متحلقين حوله خاطبني قائلاً: (يا “سامية” لازم تحافظي على النجاح بتاعك لأنو إنت حتمهدي الطريق لـ”ماجدة” و”إلياس” وبعدهم أولادي ويمشوا في نفس سكتك, بالمناسبة “فاطمة” ملتزمة بكافة احتياجاتك وأنا عندي كلام مع عمي).. وعلمت فيما بعد أن “طه” تعهد بمصروفاتي الدراسية ولا مندوحة في ذلك.. إنه الرجل الإنسان.. وحقيقة.. إن الطيبين للطيبات.. مضت إجازتي سريعاً وعدت إلى أسرتي وأنا أحمل الكثير من الزاد المعنوي والمادي, حتى “يحيى” صديق “طه” قدم لي هدية إلا أنني شكرته واعتذرت عن قبولها الأمر الذي أدهشه لكن “طه” أفلح في تطييب خاطره.. قبل عودتي أخبرني “يحيى” عن نفسه وأسرته، فقد عاش طفولة قاسية بمنزل شقيقه الأكبر الذي عاش معه بحكم الدراسة، إلا أن أخاه وزوجته أذاقاه الأمرين وأيقن أن حظه العاثر قد رماه في قوم اللؤم طبعهم، والقسوة ديدنهم كلهم بلا استثناء.. أشار “يحيى” إلى الجرح الغائر بجبينه قائلاً: (شوفي) قلت: (أيوة لاحظت للجرح ده) فرد بمرارة: (ده أخوي ضربني بالمطوة لسبب بسيط وما بيستاهل، حتى في المستشفى ما استقبلوا حالتي إلا بعد استخراج أورنيك (8), ما في زول من بيت أخوي حصلني في المستشفى إلا جارة لينا في البلد جات صدفة المستشفى زيارة ولقتني هناك اتصلت بوالدي وهو جاء في نفس اليوم وحصلني حتى جلابيتي ما لقيت ليها غيار لأن أخوي ما كلف نفسه يقيف معاي بعد العملو ده) واستطرد: (أنا حأشيل الجرح ده معاي لحدي ما أدخل القبر) وقبل أن أرد عليه تابع: (عارفة يا “سامية” بمعرفتي لـ”طه” وأسرته اتأكدت إن أخوي ده شخص مريض وزوجته عليلة.. مثلاً “فاطمة” دائماً بتتكلم عنكم, أنا حتى عرفتكم كلكم قبل ما أشوفكم) قلت: (“فاطمة” رغم تضحياتها الكبيرة بتعليمها وبفرص زواج اتقدمت ليها إلا إنها أبداً ما حسستنا إننا عبء عليها ويا سبحان الله ربنا أكرمها بزواجها من “طه” الراجل المهذب والمسؤول البقى لأبوي في مقام ولده الكبير, دي حتى في البداية رفضت الزواج منه عشان ما تخلينا برانا).. بدا لي أن “يحيى” لم يسمعني لأنه استطرد قائلاً: (حتى والدك رضى إنه ما يتزوج بعد والدتك) وبسرعة رد على نفسه: (أكيد المرحومة والدتك كانت امرأة نادرة ومختلفة) وهتف “يحيى”: (رغم كل شيء إنتو أسره محظوظة يا “سامية”.. عارفة أنا فرضت نفسي على “طه” وأسرته, من البداية أعجبتني طريقة تعامله, زي ما إنت عارفة هو رئيسي في الشغل وأكبر مني في السن، هو تقريباً في عمر صديق أخوي.. بصراحة اتمنيت يكون عندي أخو زيه).. مضت عده اشهر على عودتي.. ذات مساء هاتفني “يحيى” قائلاً بلا مقدمات: (“سامية” تقبلي تتزوجيني, أنا ما عايز رد حالاً بس أرجوك فكري ولو وافقت حأكون سعيد جداً, وكمان لو كان نصيبي الرفض فكفاية إني اتعرفت عليكم).. حقيقة لقد ألجمتني المفاجأة.. أخبرت “فاطمة” أنني لا أكاد اعرف عنه إلا ما أخبرني به بنفسه، وظللت أصر على رأيي.. حاولت “فاطمة” معي أن أفكر قليلاً في الأمر إلى أن هاتفني طه متسائلاً: (أها قررت شنو بخصوص طلب “يحيى”؟) فأخبرته برأيي السابق، فما كان منه إلا أن رد عليّ: (إنت مش بتثقي في رأيي!! “يحيى” إنسان ممتاز لو ما كده أنا ما كنت قربت منه وبقى في مقام أخوي.. أرجوك فكري في الموضوع تاني).. بعد فترة علمت من أختي أن “يحيى” سيخضع لعملية تجميل للجرح الغائر بجبينه.. فكرت عندها أن “يحيى” يريد أن يمسح مرارات الماضي وينساها.. سألتها أن تبلغه تحياتي وأمنياتي له بعاجل الشفاء.. تخرجت في الجامعة.. هاتفني “يحيى” بهذه المناسبة.. هنأني وكرر طلبه من جديد قائلاً: (أرجو إنك توافقي على طلبي, إنتو يا “سامية” أسرة غنية بالدفء وأنا مسكون بالصقيع, أرجوك ما تخافي من صدقي وصراحتي).. أقول وبمنتهى الصراحة إن حديث “يحيى” نبهني للكثير، وجاءت موافقة والدي على أمر زواجي منه، لأن “يحيى” يعرف نعمة أن تكون وسط أسرة دافئة تقيك من برد الأيام وتقلب الزمن.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية