أفراح وأتراح!!
} بعد سقوط أي صاروخ على رؤوس المدنيين في كادقلي، يخرج من جوف المدينة (10) من سكانها، مهاجرين ونازحين لأرض الله الواسعة.. في كل يوم تتعرض كادقلي لقصف مدفعي وفي اليوم التالي تستقبل الخرطوم عشرات النازحين من حيث المأساة والموت إلى العاصمة، حيث الأمان والطمأنينة، أو يخيل إلى القادمين إليها.. حتى تمددت الخرطوم وأضحت أكبر عاصمة أفريقية مساحة.. ولو نظر والي الخرطوم وقدر وفكر ودبر لأصبح من (المنبطحين) دعاة السلام والحرية والتفاوض، ونال نصيبه من (الشتائم) و(البذاءات) من دعاة الحرب والمستفيدين من سيل الدماء في بلادي.
} أكثر من أربعين صاروخاً ودانة سقطت على رؤوس مواطني مدينة كادقلي في الأسبوع الماضي فقط، صوبتها الحركة الشعبية قطاع الشمال لإسقاط النظام في الخرطوم، حيث يدفع مواطنو (حجر المك) و(دبمبا) و(مرتا) و(البان جديد) و(كليمو) هي أسماء لأحياء سكنية في مدينة كادقلي، وليست أسماء لاعبي كرة قدم قادمين من غرب أفريقيا لنهب أموال الأندية السودانية التي يديرها السماسرة.. يدفع المواطنون ثمن طموحات ومشروعات بعض السياسيين ممن يحملون السلاح وممن (يمسكون) بمفاصل السلطة!
} في الخرطوم مئات الآلاف من النازحين والوافدين من مناطق النزاعات.. وفي دارفور احتضنت المعسكرات ضحايا النزاع، وفي جبال النوبة رفضت الحكومة قيام معسكرات البؤس وإعادة إنتاج مأساة دارفور.. فأصبح ضحايا الحرب إما لاجئين بدولة الجنوب، او نازحين حول المدن الكبرى يواجهون أوضاعاً مأسوية.. جوع ومرض وبؤس، ويتبع الجوع التفسخ الأخلاق والقيمي، ويتفشى الفقر في أوساط النازحين في مدن متخمة بالشبع، وتخرج حرائر النازحين من النساء الكريمات إلى الأسواق يطعمن أطفالهن من عرق الجبين وخدمة الضراع.. وفي هذا الواقع المأسوي الذي تعيشه جبال النوبة أو جنوب كردفان.. في مناخ الموت بالجوع والموت بالرصاص والموت بالبرد.. يرفض شعب جبال النوبة الاستسلام لليأس والقنوط ويبعث الأمل في نفسه ويغني ويرقص ويمسح دموع الحزن بيد ودموع الفرح بيد أخرى.. شعب صابر يقاوم أقسى الظروف وأبشعها.. ويتمسك بموروثه الثقافي والاجتماعي، ولا يتنازل عن أسماء جباله الشامخة مهما تباعدت المسافات وسدت آلة الحرب دروب العودة لوطن يشقى بالحرب كما لم تشق إي أوطان أخرى في القارة الأفريقية.
} في كل يوم (جمعة وسبت) يقاوم النوبة والبقارة الإحباط والفقر وبؤس الحال بفنون المصارعة في ملاعب الحاج يوسف وأم بدة.. يرقصون، يغنون ويفرحون.. لأنهم يحبون الحياة، ويتطلعون للعودة لجبال من حقها علينا أن نسعى لوقف الحرب التي تخيم عليها منذ سنوات.. في أم بدة وأطرافها القصية شهدت يومي (الجمعة والسبت) الماضيين مهرجاناً لتراث جبال النوبة.. فرق للرقص والغناء الشعبي بأسماء القرى الصغيرة وأفخاذ وبطون النوبة. وبإمكانيات شحيحة جداً وبلا دعم حكومي.. نجح مهرجان الثقافة النوبي وزرع الفرح في قلوب خيم عليها الحزن رغم قصور رؤية المنظمين للاحتفالية وانكفائهم على القبائل النوبية وحدها وعدم شمولية ثقافة المنطقة بإشراك بقية مكونات الإقليم، إلا أن مجرد أن يفرح الناس في زمن الحزن، ويقاوموا الإحباط وينشروا تراثهم وثقافتهم أينما كانوا وحيث ما دفعت بهم الظروف والأحداث، لهي قيمة تستحق التشجيع. وبعد أن أصبح “الطيب حسن بدوي” أحد شباب جبال النوبة الأوفياء لوطنهم وزيراً للثقافة في السودان، فإن المهرجان القادم ربما انتقل من هامش أم بدة وزقلونا إلى قاعة الصداقة قبالة جزيرة توتي أم خضاراً شال.. وأن يبث التلفزيون فعاليات المهرجان الثقافي تمتيناً لوحدة البلاد واعترافاً بالتعدد والتنوع.
} “الطيب بدوي” وزير صاعد بعطائه وثقة قيادة حزب المؤتمر الوطني فيه، لكنه يحتاج قبل ذلك لثقة جبال النوبة، وذلك لن يتحقق له إلا بعد أن يشعر الناس بأن وجوده في كرسي وزير الثقافة قد أثمر اعترافاً من الدولة بالكرنق والنقارة والبخسة والمردوم كثقافات سودانية.