أخبار

ماشين وين؟!

استوقفني كثيراً “كمال بوب” بطل قصة فقيد الإبداع “مجدي النور” وهو يطلق عبارته الأخيرة منهياً القصة – التي استمعت إليها من خلال المذياع أمس – (الناس دي ماشة وين)؟!..
هذا التساؤل الذي ربما لا يعني شيئاً بعيداً عن السياق الذي قيل فيه، فنحن دائماً نسأل إلى أين هم ذاهبون؟!.. ولكن حين يعني هذا السؤال على لسان بطلة قصة “مجدي النور” الحيرة والتيه وعبثية الحياة من حولنا.. فهنا فقط تصبح للسؤال قيمته الكبيرة ودلالته العميقة!
و”كمال بوب” لمن لا يعرفه هو – حسب وصف القصة له – ولد وترعرع في أحد الأحياء الطرفية للعاصمة.. هناك حيث الحياة تبدو أكثر صعوبة ومشقة وانعداماً للخدمات والتنمية ووسائل الراحة.. وحيث الفقراء يحلمون بدخول الجنة.. وحيث النظرة المريبة للمدينة التي لم تحاول مد أياديها لهذه المجتمعات المهمشة.. ولكن “كمال بوب” يرفض هذا الواقع متأثراً بقراءاته المنفتحة للفلسفة والفنون فتظهر عليه علامات الاختلاف عن سائر من حوله.. ولأنه محكوم بمجتمع صغير ومتواضع.. فإن قصة حبه المتوهمة مثلاً لم تتجاوز مربع (ست الشاي) التي أطلق لأجلها شعر رأسه وجعله “راستا” تماماً مثل المغني الشهير “بوب مارلي”.. فعل ذلك ليلفت نظرها إليه.. فهي تحب “بوب مارلي”!
كان “كمال بوب” يستيقظ كل يوم باكراً مرتدياً أفضل ما عنده من ثياب مقنعاً رفاقه في الحي الفقير بأنه ذاهب إلى (المدينة) لأن لديه أعمالاً مهمة هناك.. هي محاولة منه لإقناعهم بأنه شخص مختلف ومهم.. وأنه استطاع اختراق (المدينة) التي ظلت تتطاول أسوارها العالية في وجه القادمين إليها من خارجها..!
والواقع أن كل ما كان يفعله “كمال” هو ركوب (الحافلة) من آخر محطة حيث حيه الطرفي وحتى آخر محطة في قلب الخرطوم وتحديداً (ميدان أبو جنزير).. ثم يعود مرة أخرى بعد أن تتفحص عيناه ما يحدث في (الحافلة) وخارجها.. مجرد متابعة بصرية للبشر والأشياء.. وكان دائماً يتساءل في قرارة نفسه حين يصطدم بالازدحام العجيب في وسط الخرطوم ومشهد (ميدان أبو جنزير) الممتلئ بالحشود: (الناس دي ماشة وين)؟!.
ولكن وهنا بيت القصيد ومربط فرس القصة.. فإن آخر مرة نطق فيها “كمال بوب” هذا التساؤل كان بالفعل قد أصابه اليأس من لعبته اليومية هذه وبلغ اليأس منه حداً قاتلاً وهو يرى الحيرة والتيه والتخبط يرتسم على كل وجوه المارة وقد ضاقت بهم الحياة وتكاثرت عليهم الضغوط والهموم وأوصدت في وجوههم الأبواب والنوافذ.. ولذلك فإن تساؤله الذي انتهت به القصة هذه المرة لم يكن مناجاة مع النفس بل كانت بالصوت العالي والغاضب: (الناس دي ماشة وين؟!).. لقد فقد “كمال بوب” عقله.. وأصبح يكلم نفسه مثله مثل آخرين كثيرين غيره يكلمون أنفسهم في قلب الخرطوم ويجأرون بالسؤال المحزن والمرير: (الناس دي ماشة وين؟).. هذا السؤال الذي لن يستطيع الإجابة عليه أحد…!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية