البيت المسكون..!!
قررت “محاسن” أن تمسك بزمام الأمر وفاءً لصديقتها التي رحلت تاركة خلفها طفلة ذات أعوام خمسة وأماً أقعدها المرض.. حاجة “زهرة” والدة “محاسن” أشفقت عليها من ثقل المسؤولية: (يا بتي ما تتسرعي, “زاهية” الله يرحمها كانت قاعدة في بيت أبوها لأنو أمها عيانة وأخوانها دايرين الرعاية.. والحمل دا ما بيقدر عليهو إلا زولاً لزم)، ولكن “محاسن” طمأنت والدتها: (يمة ده عمل خير وربنا بيقدرني عليهو إنت بس ساعديني بي دعواتك).. وهكذا انتقلت “محاسن” من دارها الأنيقة الصغيرة إلى (البيت الكبير).. قبل أن تدخله جمع حاج “فاروق” أولاده الثلاثة (إنت يا “سيد” ربنا أداك زوجة صالحة وبت رجال, حقيقة “محاسن” فعلاً جمعت كل المحاسن حافظ عليها) رد “سيد”: (كيف يا أبوي دي درة, والله العظيم هي صاحبة القرار في السكن معاكم) أجابه والده: (عارف, عارف بدل ما تسد بابها عليها معاك إنت وولدها الفرد وحيد جابتكم وجات للبيت الكبير وضيوفه ومسؤولياته الما بتنتهي).. ثم وجهه كلامه إلى ابنيه “مدثر” و”معتصم”: (ما عندي كلام كتير أقولو ليكم الحمد لله كل واحد فيكم قايم بي واجبوا…) ثم أمسك بأذن “مدثر” وشدها قائلاً: (أوضتك الجايطة دي أخجل منها ورتبها) وزاد في شده لأذن ابنه الأصغر.. تململ “مدثر”: (خلاص يا أبوي فك, يعني معقول أبقى أنا الوحيد المشاتر.. لا لا من هسع أنا قايم أرتبها وكمان احتمال كبير أمسحها ليكم.. أها قصرت معاكم).. وهكذا استعدت أسرة الحاج “فاروق” لاستقبال “محاسن” وأسرتها, ووالدة “سيد” طريحة الفراش كانت أسعدهم، فحالتها تحتاج إلى ابنة واعية.. ترحمت على وحيدتها (عافية منك يا “زاهية” ما قصرتي إلا أيامك هي الكانت قصيرة في الدنيا).. كان “أمجد” هو الأكثر صخباً وضجة ففكرة الانتقال إلى (بيت جدو) راقت له كثيراً وهو اللصيق بجده وأعمامه.. في ذلك المساء البعيد وعند وصول أغراض “سيد” وأسرته تعاون الكل في ترتيبها، ومع ساعات الفجر الأولى أخذت الدار شكلها الجديد.. صلت “محاسن” صبحها حاضراً.. أعدت الشاي, هي تعلم أن حاج “فاروق” يشرب القهوة مع جريدة الصباح.. يومها وبغير عادته استيقظ “أمجد” باكراً.. هرول نحو أمه بصخب.. أشارت له أن يهدأ.. دنا منها وشوشها قائلاً: (يمة إن شاء الله اتذكرت الكيكة؟؟) قبلته ووشوشته: (أيوه يا أشعب اتذكرت الكيكة).. ابتسم فبانت أسنانه (الشروم) فالصبي لا يزال في مرحلة تبديل الأسنان.. سألها (يمة أشعب دا منو؟؟) فردت: (زول كده جنو يسفسف).. ضحك ولكنه أحكم يديه الصغيرتين حول فمه فالناس نيام.. ها هي تقوى تدخل المطبخ قائلة: (صباح الخير يا خالتو “محاسن”) ردت “محاسن” قائلة: (صباح النور على أحلى زهور).. امتلأت عينا الصغيرة بالدموع وهي تقول: (والله أنا الليلة مبسوطة لأنو إنت معانا كأنو أمي جات تاني).. ضمتها “محاسن” وهي تغالب دموعها: (يا “تقوى” لو تديني الشرف وتقولي لي أمي زي ما “أمجد” بيقول لي حأكون أسعد أم في الدنيا).. كانت إجابة الصغيرة: (أيوه يا أمي.. إنت كمان أمي).. يومها مر شريط من الذكريات على “محاسن”.. “زاهية” صديقتها، تزاملتا في كل المراحل التعليمية وافترقتا في مجال العمل.. تزوجت “زاهية” من ابن عمها, تنقلت معه كثيراً بحكم عمله, كما تزوجت “محاسن” بـ”سيد” شقيق “زاهية” فزادت العلاقة بين الصديقتين, وعندما تحادث “زاهية” صديقتها كانت المكالمات بينهما تطول وتطول، فحتى عامل البعد والمكان لم يستطع أن يفرق بينهما.. تذكرت اهتمام “زاهية” بها وبأسرتها حتى حبها للتحف لم تنسه، بل كانت حريصة عند عودتها للوطن باختيار المميز من التحف هدية لـ”محاسن” وتعلق على ذلك قائلة: (عارفاك بتحبي التحف) فتغيظها “محاسن” بقولها: (مستهبلة لأنك عارفة كل التحف دي حتكون في بيت أخوك).. إلا أن المرض تربص بالزوجة الشابة فأرهقها ولم يترك منها إلا عينين نجلاوين تتحركان في وهن.. في بداية المرض اللعين كانت “زاهية” تكرر وصيتها الوحيدة: (“محاسن” إنت عارفة أمي عيانة وأنا مرضي دا حيوديني للموت أوصيك بي أمي و”تقوى” بتي أمانة أسألك عنها أمام الله) فتطمأنها “محاسن” مكذبة هواجسها: (يا زولة ما تقولي كده عُمر الشقي بقي) فتبتسم “زاهية”: (اتمنيت أربي “تقوى” لكن معليش إنت في).. وهكذا تسلمت “محاسن” الأمانة وأبت إلا أن تحمل العبء كله، فكان جميلها هذا تاجاً على رأس أسرة حاج “فاروق”.. سارت الأيام وأنجبت “محاسن” ابنتها “هنادي” ومرت السنوات (شروم) كبر وهو على أعتاب الجامعة.. “تقوى” تزور قبر والدتها بصحبة “محاسن” و”هنادي” وخالها، كما أن “محاسن” علمتها بأن تكثر من التصدق على روح والدتها والحق يُقال أن والد “تقوى” لم يبخل عليها بشيء، وكان دائماً إلى جوارها، ورغم زواجه بأخرى لم يبعد عن ابنته وتواصل سفرها إليه في العطلات الدراسية، وحتى عند غيابها عن الدار كانت حاضرة بتواصلها مع “هنادي” طول اليوم، فهما لم ترحما التقنية الحديثة, هذا الارتباط بين الصغيرتين كان يُذكر “محاسن” بعلاقتها بـ”زاهية” ويا سبحان الله فقد أورثت وحيدتها كل شيء.. كل شيء توفيت حاجة “الرضية”.. صعدت روحها الطاهرة إلى بارئها وكما قال أرملها المكلوم: (فراقها مُر ورغم عجزها في السنوات الأخيرة إلا أن نفسها كان العصب الحي البيلم البيت ده).. “مدثر” أصغر أولادها صام عن المرح فانطفأت قناديله من الدار المهولة.. أما “المعتصم” – كما كانت أمه تناديه- فقد طلق تمارين كرته وخروجه الدائم من المنزل الذي كان لا ينتهي إلا ليبدأ من جديد، وبدأ يعطي وقتاً أكبر لوالده، وصار حريصاً على مرافقته في المناسبات الاجتماعية حلوها ومرها.. حتى “سيد” بات أكثر قرباً من أسرته، وكأنه يخشى أن يصبح يوماً فلا يجدها، فإن رحيل “زاهية” ومن بعدها حاجة “الرضية” أفقدهم سنداً ودفئاً.. هذا ما أحسته “محاسن” وبصدق وأرادت تعويضه بوجودها وحرصها على أن تشب كل من “تقوى” و”هنادي” وهما مترعتان ومشبعتان بحب هذا البيت وتحمل مسؤولياته، فكانت تحرسهما يعيني صقر وقلب أم.. مرت الأيام وها هي “تقوى” اليوم وقد خطبت لـ”أكرم” قريبها من جهة الأب وكان شرط “محاسن” الوحيد ضرورة إكمال “تقوى” دراستها أولاً ثم إتمام مراسم الزواج.. وهكذا بدأت معالم أفراح تطل على البيت من جديد.. ذات يوم عادت “تقوى” من الكلية برفقة زميلتها “تهاني”, لم يكن لدى “محاسن” علم بهذه الزيارة وكانت قد عودت ابنتيها على ضرورة إخبارها.. تم استقبال الضيفة بترحاب وكرم وعلى مائدة الغداء كانت “محاسن” تحثها مشجعة (أكلي عليك الله يا بتي, الملاح المفروك ده ما عجبك ولا شنو؟؟).. تناولت “تهاني” طعامها بهدوء مصطنع قائلة: (آآي والله عجبني يا خالتو عشان كده أنا تاني حأجي مع “تقوى” هنا كل يوم خميس).. ونظرت إلى زميلتها قائلة: (ده طبعاً لو “تقوى” وافقت)، فردت: (تشرفي, البيت بيتك).. وهكذا رمت الضيفة طعمها فابتلعه الجميع إلا “محاسن” فإن شيئاً ما استوقفها.. غادرت الضيفة صينية الغداء مدعية الشبع.. دخلت لتغسل يديها في الحمام الأنيق.. ولدهشة الجميع دلفت إلى أقرب غرفة قابلتها، ومن ثم جعلت تتفقد غرف الدار بجرأة تُحسد عليها.. لم تترك مكاناً إلا ودخلته.. بعد الغداء وفي المطبخ بدت “تقوى” منزعجة من تصرفات صديقتها وأبدت امتعاضها لـ”محاسن”، ومما زاد الطين بلة أن “هنادي” دخلت المطبخ وهى تسأل “تقوى”: (صاحبتك دي جبتيها من وين؟؟) ليأتي رد “تقوى”: (هي ذاتها ما صاحبتي للدرجة دي.. ووالله يا أمي قدر ما حاولت أتهرب منها ومن موضوع الزيارة دي لكنها فرضت نفسها عليّ وحتى لمن جاء أكرم عشان يوصلني البيت فاجأتني إنها ماشة الليلة معاة البيت عشان كده أنا طوالي يا أمي ضربت ليك وكلمتك).. أرجأت “محاسن” المناقشة إلى وقت لاحق بقولها: (خلاص الموضوع ده ما وقتو لكن بصراحة البت دي ما بتشبهك يا “تقوى”).. وبحلول المساء غادرت الضيفة المزعجة الدار. لاحظت “هنادي” وجوم “تقوى” وضيقها فأرجعت ذلك لاقتراب امتحاناتها النهائية وانشغالها ببحث التخرج، ولكن ما بال الأمر يطول ويستمر لما بعد الامتحانات.. انتبهت “محاسن” إلى حال “تقوى”.. حاولت أن تعرف منها ما الذي يزعجها ولكنها دارت ما بها إلى أن جاء ذاك المساء.. أخبرت “تقوى” أمها بمضايقات “تهاني” المستمرة لها، بل ومحاولتها التدخل بينها وبين “أكرم” الذي سألها اليوم: (إنت أديتي رقم تلفوني لتهاني؟؟) فردت “تقوى” أنها لم تفعل، ورجحت أن “تهاني” قد أخذته دون علمها، فلو كان الأمر طبيعياً لطلبت منها الرقم مباشرة، ولكنها تعرف “تهاني” وبدا واضحاً ما يدور برأسها.. سألت “تقوى” أمها “محاسن”: (أعمل شنو يا أمي؟؟) فردت “محاسن”: (تواجهيها عديل الزي “تهاني” اتعودت على اللف والدوران وما بتعرف الدرب العديل يبقى دواها شنو؟؟) ردت “تقوى”: (دواها المواجهة).. لم تضيع “تهاني” وقتها فقد تفاجأ بها الجميع في حفل زواج ابنة عم “تقوى”.. وأوضحت بدون خجل أنها علمت بالأمر مصادفة ولأنها بت البيت جات طوالي.. وما أن بدأ الحفل حتى أعلنت “تهاني” أنها تريد العودة إلى بيتها وطلبت من “تقوى” أن يقوم أحد بتوصليها فأخوها على حد زعمها سيتأخر في الحضور لأخذها، فاعتذرت “تقوى” بأنها تريد أن تحضر مناسبة ابنة عمها إلى النهاية، فما كان من “تهاني” إلا أن اقترحت: (خلاص خلي أكرم يوصلني بعربيتو).. عندها نظرت إليها “تقوى” بدهشة ونظرت إلى أمها مستنجدة والتي أطرقت قليلاً وما لبثت أن خاطبت “تهاني”: (فعلاً يا بتي إنت لازم تمشي ومن بدري).. وغادرت الطاولة.. اتجهت إلى زوجها أخبرته بأنها تريد مفتاح العربة لأنها ستوصل زميلة “تقوى” إلى دارها.. عادت “تقوى” بعد قليل: (يلا يا “تهانى”).. نهضت “تهاني” جزلة فرحة، وخارج صالة الأفراح أشارت “تقوى” للعربة المتوقفة غير بعيد: (اتفضلي).. اتجهت “تهاني” وبدون تردد للباب الأمامي، وعندما لاحظت وجود “تقوى” قالت وهي تفتح الباب الخلفي: (إنت ما قلتي عايزة تحضري الحفلة).. لم ترد عليها “تقوى” بل دخلت بهدوء للعربة, تفاجأت “تهاني” بوجود “محاسن” على المقود بينما كتمت “هنادي” ضحكتها.. قادت “محاسن” السيارة بهدوء بينما ساد الوجوم داخل العربة التي توقفت أخيراً أمام منزل “تهاني”, وعندما همت الأخيرة بالنزول استوقفتها “تقوى” بقولها: (إستني دقيقة يا “تهاني” أنا عايزة أقول ليك حاجة زي ما إنت عارفة أنا وإنت أبداً ما صديقات ولا حتى صاحبات.. إنت حاولت تفرضي نفسك عليّ وعلى علاقتي بـ”أكرم” ومن اللحظة دي دخولك في حياتي مرفوض تماماً ويا ريت توفري على نفسك كل المحاولات دي لأنها بصراحة مافي منها فايدة وده آخر مشوار ليك معانا.. مع السلامة).. بدا وكأن “تهاني” قد ألجمتها المفاجأة فهي لم تتوقع ما آلت إليه الأمور في هذه الدقائق الأخيرة.. نزلت من السيارة بقدمين لا تقويان على حملها, كل ما استطاعت فعله هو أن تصفق الباب بعنف وراءها.. عندها أطلقت “هنادي” ضحكتها المكتومة وسألت “تقوى”: (ما عرفتك يا “تقوى” الرجالة دي كلها جبتيها من وين؟؟).. تنفست “تقوى” بعمق ولم ترد، إلا أن “محاسن” أجابت عنها: (يا “هنادي” يا بتي الواحدة منكم أبداً ما لازم تسمح لأي من كان إنه يستغلها ولازم تكون واضحة زي عين الشمس وتدافع عن حقها.. حياتنا فيها إشارات مرور بتنظمها وتحدد متين نتحرك ومتين نقيف).. مشاوير كثيرة في انتظار “محاسن” وابنتيها.. ومواقف متعددة تحاول من خلالها أن تعلمهما كيف تعيشانها وكيف تتعاملان معها، فهي تريد أن تحافظ على أهل هذا البيت المسكون بالحب.. المسكون بالمشاركة، فالمسؤولية واحدة تجاه “تقوى” و”هنادي”.. فكلتاهما أمانة بين يديها وكلتاهما صمام أمان هذا البيت.