أخبار

استراحة الجمعة

} غرفة وحيدة من الطين و(راكوبة) صغيرة من الخيش صنعتها “حليمة” لأطفالها الأربعة ووالدتها الكفيفة في قرية غرب سوق ليبيا، مثل المئات من النسوة اللاتي كتب الفقر والنزوح شهادة فراق بينهن وأزواجهن.
} لاذت النساء بالمدن الكبيرة وركب بعض الرجال الصحراء مهاجرين إلى ليبيا، ويمم آخرون وجوههم مشاريع الزراعة المطرية في القضارف وهبيلا.. يعيشون في (الكنابي).. يحتسون القهوة والمريسة.. يستسهلون حياة أقرب للضياع. ومنذ أن غادرت حليمة قريتها في شمال كردفان وقد طردها الجوع وقلة الزاد وأنين الأطفال في هجعة الليل.. اختارت أم درمان وطناً لإحساسها العميق بأن عبور النهر للخرطوم أو الخرطوم بحري (يبعدها) عن ديار تتوق للعودة إليها وإن طال الزمن.
} غادرت “حليمة” قريتها على ظهر لوري بعد أن فقدت زوجها “رابح” بهجرته لبلاد تجهلها وتقطعت أخباره، وتضاربت ما بين شهود عيان يدعون رؤيته في (كمبو ستة) في ود الحليو بالقضارف، وآخرون يزعمون هجرته لليبيا والقبض عليه ووضعه في السجن منذ سنوات.. أطفالها يسألونها (ماما أبوي وين).. وطفلتها “مريم” تمسح على خصلات شعرها السبيبي وتقول لوالدتها (يُما أنا جوعانة). باعت عنزاتها الثلاثة ويوم أن اتخذت قرار الرحيل من القرية عرضت حمارها بأي ثمن ولم تجد من يدفع عشرة جنيهات ثمناً له.. رفض التاجر الوحيد بالقرية شراء الحمار، فأودعته لابن خالتها “عثمان” واتخذت هي وأطفالها الأربعة موضعاً داخل صندوق السيارة (أم برمة) التي تسمى أحياناً باسم التاجر (حجوج).. أول من ملك تلك السيارات.. جلست “حليمة” والسيارة تمخر في الرمال والشمس تدنو من المغيب، والسائق يتوقف في منطقة أم قرفة ويختفي عن الأنظار والركاب ينتظرون عودته حتى منتصف الليل.. “حليمة” تتأمل في النجيمات والأطفال يغطون في نوم عميق.
} السائق يعود مخموراً بالمشروبات البلدية ويترنم بأبيات من(الدوبيت) ومقاطع من أغاني الجراري.. تبدو السيارة أسرع من ذي قبل ونسائم الليل الباردة تنعش الأجساد قبل الأرواح ومع بزوغ شمس اليوم الثاني.. تصل السيارة لأم درمان وتنضم “حليمة” لمعسكرات البؤس والتعساء المطرودين من أرض ألفوها وألفتهم، وأخيراً لفظتهم لأتون مدن يجهلون كنهها.
} خرجت “حليمة” منذ اليوم الأول لوصولها (المويلح) غرب أم درمان بحثاً عن ما يقيم أود أطفالها، بعد أن أودعتهم لوالدتها ذات السبعين عاماً.. حدثتها امرأة قذفت بها ذات الظروف، أنها حصلت على طعام لأطفالها أمس من منزل لامرأة خيرة بالقرب من السوق.. وطلبت منها أن ترافقها في رحلة البحث عن المال والطعام في أتون المدينة المرعبة.. طرقت باب منزل فصدهن حارس للمنزل بعنف وغلظة.. ترددت “حليمة” في طرق باب آخر.. ولكن شريكتها في البحث عن الطعام نظرت من خلال ثقب بالباب، ثم طرقت على الباب ليخرج طفل أسمر اللون مرتدياً ملابس أنيقة.. عاد الطفل لداخل المنزل مهرولاً لوالدته.. ماما.. ماما.. المجنونة.. قالت “حليمة” (أنا ما مجنونة يا ست البيت).. إلا بس خنقتها العبرة ولم تكمل الجملة.. سيدة المنزل تنظر إلى “حليمة” ورفيقتها “زينب”: (بتشتغلوا)؟! نعم بنشتغل أي حاجة.. أمرتهن بغسل الملابس والحمام ومسح المقاعد الوثيرة والأواني المنزلية.. وبعد يوم طويل منحتهن مبلغاً من المال وبقية من طعام.. عادت “حليمة” لأطفالها فرحة بالطعام قبل المال القليل.
} منذ ذلك اليوم و”حليمة” اختارت بل اختارت ظروفها أن تصبح (شغالة) في منازل أحياء الموردة وبيت المال وأم بدة.. والثورات.. تغسل الملابس والأواني وتساعد نساء المدينة حتى في إعداد حطب الدخان مقابل قليل من المال والطعام لأطفالها الذين تحسنت صحتهم واكتست عظامهم قليلاً من اللحم.. ولكنهم يسألون (بابا وين).. ومتى يعود.. وهل سنعود مرة أخرى لرعي الغنم وجلب الماء من (الدونكي)، وما مصير جدنا “عبد الله” الذي تركته “حليمة” مع شقيق زوجها الأكبر وقد هده المرض وأضناه الجوع.. هل مات أم لا يزال يقاوم ظروفه الخاصة.
} ابتلعت المدينة “حليمة” وأطفالها وطوت صفحة الريف إلى الأبد.. واحتفظت بحبل وهمي.. ورباط بزوج غير معروف مصيره.. قاومت كل إغراءات الرجال بالزواج منها وهي تتشبث بالأمل أن تعود إلى قرية ألفتها، ولأحضان زوج غادرها منذ سنوات ولا تزال تحتفظ بأشياء جميلة عنه ولا تغادر صورته مخيلتها.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية