تحقيقات

قرارات .. في سلة المهملات!

أن يُمنع طالب أو طالبة من دخول إحدى المدارس الخاصة بسبب الرسوم الدراسية أمر لا غضاضة فيه طالما أن الأمر يتعلق بالتعليم الخاص الذي لا يرحم، ولكن أن تحرم طالبة في المرحلة الثانوية من دخول حوش مدرستها (الحكومية) بسبب الرسوم الدراسية ومنعها من ممارسة حقها الطبيعي في مجانية التعليم الحكومي الذي كفله لها الدستور، فهو أمر يستوجب الوقوف عنده ومحاسبة القائمين على أمر التعليم الحكومي، لأن مجانية التعليم في السودان أمر مكفول بنص دستور مواده ملزمة، لكن منها ما يتم التحايل عليه. وذات الأمر يشمل العديد من القرارات الإدارية والمحلية التي لا تجد حظها من التنفيذ وإن نفذت يتم تنفيذها بتحايل.. إلى أن أصبحت العديد من القرارات التي يضعها المسؤولون بالدولة قرارات مع وقف التنفيذ أو إن صح التعبير هي قرارات في سلة المهملات تفتقد وجود جهاز رقابي يتابع آليات تنفيذها.
 حبر على ورق
ليس قرار مجانية التعليم وحده فحسب الذي لا يتم تنفيذه كما يجب أن يُنفذ، بل أن هناك العديد من القرارات التي تخرج من الدواوين الحكومية ولا يتم تنفيذها بالصورة المطلوبة، ولكن قرار مجانية التعليم تحديداً يعد حبراً على ورق، تتأثر به العديد من الأسر البسيطة التي ارتضت لأبنائها المدارس الحكومية لضيق ذات يدها، وهي ما فتئت تواصل الدفع بحجج رسوم الامتحانات وأرقام الجلوس وووو…الخ من أساليب الدفع غير المباشر، مع العلم أن المجانية بمعناها المتعارف عليه لا يمكن أن تتجزأ، ورغم أن الجهات المسؤولة تتحدث عن مجانية التعليم، إلا أن لسان حال المدارس يقول إنها أصبحت مراكز للجبايات من مجالس الآباء.. وهنا لابد لي من الإشارة إلى الملتقى الذي أقامته (جمعية حماية المستهلك) بالتعاون مع (المنتدى التربوي السوداني) الذي أمنَّ على ضرورة تأمين الدستور القادم لحق التعليم ومجانية وإلزامية تعليم الأساس، إضافة إلى الالتزام بالمعايير الدولية في الانفاق الحكومي على التعليم وتمهين التعليم بتحديد معاييره وتحديد الدستور لآليات تمويل العملية التربوية، كما أن الملتقى كشف عن أن السودان يأتي في مؤخرة الدول التي تنفق على العملية التربوية، مشيراً إلى أن ولاية (نهر النيل) تعد من أكثر الولايات إنفاقاً على التعليم بنسبة بلغت حوالي (20%) ومن ثم تليها ولاية (جنوب دارفور) و(النيل الأبيض) و(سنار) و(كسلا)، في حين أن ولاية (الخرطوم) و(غرب دارفور) يعدان من الولايات الأقل إنفاقاً على التعليم ويعتمدان على مجالس الآباء بنسبة تفوق الـ(97%)!
أبرز توصيات الملتقى الذي ترأسه رئيس المنتدى التربوي السوداني “مبارك يحيى” تضمنت إلى جانب مجانية وإلزامية تعليم الأساس مجانية التعليم الثانوي للفقراء أيضاً، والالتزام بالمعايير الدولية في الانفاق الحكومي على التعليم وتحديد معاييره، فضلاً عن تحديد الدستور لآليات تمويل التعليم حسب مسؤولياته والاهتمام بالتربية الوطنية في المدارس وإرجاع العام الدراسي المسلوب ليصبح السلم التعليمي (12) عاماً دراسياً، ورغم أن تلك التوصيات أمنَّ عليها القائمون على أمر الملتقى، إلا أنها ظلت أشبه بالأمنيات التي نطمح جميعاً إلى تحقيقها لإنقاذ ما تبقى من التعليم والحفاظ عليه من الانهيار.
ولم يكن قرار مجانية التعليم هو الأوحد بين عدد من القرارات الحكومية التي تتنوع وسائل التحايل على تنفيذها بأشكال وطرق مختلفة، ولكنه يعد أهم تلك القرارات خاصة أن التعليم يقود إلى رفعة الشعوب، كما أن الصحة أيضاً تتساوى والتعليم في ذات الأهمية للإنسان، ولذلك فإننا نجد أن ثاني القرارات التي لا تنال حظها من التنفيذ هي مجانية العلاج، خاصة أن هناك تصريحات جاءت على لسان والي الخرطوم “عبد الرحمن الخضر” حول إلغاء مجانية عمليات الولادة القيصرية وعلاج الأطفال والاتجاه إلى نقل عيادات الأطباء الاختصاصيين من شارع مستشفى الخرطوم، وهي إجراءات وصفها بأنها تصب في الاتجاه العام للحكومة في ظل خصخصة الخدمات الصحية وصولاً إلى الإلغاء التام للعلاج المجاني في كافة المرافق، ويرجع السبب إلى ضآلة المبلغ المخصص للصحة في الموازنة العامة ومجانية العلاج تلك لا تشمل السواد الأعظم من الشعب السوداني إنما تتعلق بمجانية علاج الأطفال دون سن الخامسة، بالإضافة إلى مجانية علاج الطوارئ لمدة (24) ساعة، ومجانية عمليات الولادة القيصرية بالمستشفيات الحكومية.
ومن القرارات التي لم تجد حظها من التنفيذ قرار منع الأجنبيات من ممارسة بيع الشاي حينما وجه معتمد محلية الخرطوم اللواء “م. عمر إبراهيم نمر”، شرطة أمن المجتمع وإدارة المخالفات ببدء حملات منع بائعات الشاي الأجنبيات من العمل في الشوارع والأسواق وفقاً للقرار الصادر من المحلية في هذا الشأن.
الجدير بالذكر أن بائعات الشاي الأجنبيات انتشرن بصورة كبيرة بلغت وحدها في شمال ووسط الخرطوم ما يزيد عن (1400) أجنبية يمارسن بيع الشاي ومازلن يمارسن البيع رغم قرار المعتمد الذي ذهب مصيره إلى سلة المهملات، إلى جانب القرار الذي أقام الدنيا ولم يقعدها حينما أعلنت ولاية الخرطوم عن قرار يقضي بحظر تدخين (الشيشة) في الأماكن العامة، وهددت باستخدام العقوبات الرادعة في حق كل من يخالف القرار بإنزال أقصى العقوبات المالية من الغرامة ومصادرة متعلقاتها، وقد آثار القرار حينها ردود أفعال واسعة بين الأوساط المختلفة خاصة الجهات التي تعمل في مجال بيع وتسويق السلع المتعلقة بـ(الشيشة) والمحلات المستفيدة منها كالمقاهي والكافتريات والمطاعم وأندية المشاهدة الرياضية، حيث رفض أصحاب محلات (الشيشة) وملاك محال تصنيع المدخلات المستخدمة فيها القرار الذي وصفوه بالمفاجئ وغير المدروس ولا يراعي الآثار الاقتصادية والاجتماعية التي سيخلفها على العديد من الأسر بعد أن أصبح الاستثمار في الشيشة يشهد تنامياً متزايداً خلال الأعوام الأخيرة… هذا الخبر تداولته جميع الصحف ووسائل الإعلام حين صدوره الذي لم يتم العمل به وتطبيقه ومازالت محلات تدخين الشيشة تمارس عملها حتى الآن بعد أن ذهب القرار إلى سلة المهملات مثل غيره من القرارات.
استعادة هيبة
وعن مستويات الحكم في البلاد يؤكد “د. محمود متولي إبراهيم” أستاذ الإدارة العامة وخبير الحكم المحلي أنها تنقسم إلى مستوى محلي واتحادي وولائي، ولكل مستوى جهاز تشريعي يناط به وضع التشريعات وإصدار الأوامر المحلية والمصادقة عليها كل حسب وضعه، إلى جانب جهاز تنفيذي يناط به التنزيل بأمر التشريعات والأوامر المحلية الصادرة إلى حين التنفيذ، ويضيف قائلاً: حين تصدر السلطة التشريعية أمراً محلياً مثلاً على مستوى السلطة المحلية، فإن الجهاز التنفيذي يكون هو الجهاز المناط به تنفيذ ما جاء في الأمر المحلي، وبذات القدر فإن هناك آليات لهذا التنفيذ، ويكون ذلك مضمناً في التشريع الصادر في حالة المخالفة ونوع وحجم العقوبة، وبالتالي فإن أمر التنفيذ قد يكون إيجازياً كما هو في حالة الأوامر الخاصة بالصحة العامة، ومن ثم فإن آلية التنفيذ تتمثل في الصحة أو ضابط الصحة أو ملاحظيها وطبيعة التكليف.
وهناك بعض الأوامر التي تتطلب تدخل الشرطة يقول عنها “د. محمود” إن مثل هذه الأوامر تلجأ إلى القضاء تحت إشراف المدير التنفيذي للمحلية الذي يقوم بدوره برفع تقرير للسيد المعني المسؤول عن إدارة المحلية أمام المجلس التشريعي، ويضيف أن الحكم المحلي يختلف باختلاف الولايات التي تعني بإصدار الحكم كل حسب رؤاه الولائية وبما يتلاءم مع ظروفها وأحوالها وربما تحديد الأولويات وكذلك الاهتمام بالجانب الإيرادي – أي جانب الإيرادات – أكثر من الاهتمام بالجوانب الأخرى مما يضعف أمر المتابعة التي تحدثنا عنها سابقاً، وأحياناً أخرى التداخل في السلطات والصلاحيات وتعدد مصادرها يحول دون إمكانية تحديد المسؤولية خاصة في تلك المحليات التي تقع في رئاسة الولايات، ففيها يتداخل ما هو في نطاق السلطة محلية كانت أم ولائية.
لعل الأمر لا يتوقف عند حد التعليم والصحة ومنع الأجنيات من ممارسة بيع الشاي وحظر أماكن تدخين (الشيشة)، بل إننا نجد أن قرار الالتزام بأوزان الخبز ومحاربة سماسرة الدولار والقبض عليهم أيضاً من القرارات التي لم تجد حظها من التنفيذ، فمازال التلاعب بأوزان الخبز يحدث على مرأى ومسمع السلطات رغم شكاوى المواطنين من رداءته وقله وزنه، كما أن سماسرة الدولار يمارسون عملهم دون أن يعترض طريقهم أحد.. ربما القرارات التي لا يتم تنفيذها والتحايل عليها هي عديدة وبحاجة إلى حلقات لسردها، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما هي أسباب عدم تنفيذ تلك القرارات؟ وما هي الآلية المطلوبة لتنفيذها حتى تحفظ الدولة (هيبتها) أمام شعبها؟

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية