المشهد السياسي

الأحزاب السودانية وأزمة التجديد!!

بعد الانتفاضة على نظام المشير “نميري”، وقد غابت الأحزاب عن الساحة السياسية لسنوات طويلة، كان الرمز (الاتحادي) الراحل “الحاج مضوي محمد أحمد”، وهو من بُناة ومؤسسي الحزب (الاتحادي)، يقول: لم يبق لنا الموت زعيماً. فقد كان الحزب (الاتحادي) عامراً بالزعماء والرموز وأشهرهم يومها “إسماعيل الأزهري” و”مبارك زروق” والشيخ “علي عبد الرحمن” و”الشريف حسين الهندي” والقائمة تطول.. وكان قد لحق بهم بعد ذلك السيد “أحمد الميرغني” وهو أحد رمزي البيت الميرغني بعد رحيل “الميرغني” الأب في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي.
وبرحيل كبار الممولين والداعمين للحزب (الاتحادي) كالسادة “إبراهيم جبريل” و”بشير النفيدي” و”إبراهيم مالك” و”يحيى الكوارتي”، والسند الروحي للحزب “الخليفة حمد كمال”، وأمثالهم كُثر، بات الحزب (الاتحادي) بلا سند سياسي أو مادي ومالي، فقد كان حزب رموز سياسية ومالية ذهبت كلها ولم يبق الموت منها أحداً كما قال السياسي ورجل الأعمال الراحل “الحاج مضوي محمد أحمد”.
الموت حق بطبيعة الحال، وليس في الأحزاب (الاتحادي) بمسمياته المختلفة وحده، وإنما الأحزاب الأخرى كحزب (الأمة القومي) و(الحزب الشيوعي) و(الجبهة الإسلامية القومية) وما تلتها من مسميات سياسية. فقد فَقَد حزب (الأمة) أمينيه العامين “د. عمر نور الدائم” و”د. عبد النبي علي أحمد”، ثم رمزه النسائي الأول السيدة “سارة الفاضل المهدي” التي كان لها دورها الخاص في مركز القرار بالبيت والحزب معاً، مما كان له أثره الذي لا يخفى عن العين، ذلك أنها (رحمها الله) كان لها صوتها العالي الذي ينطق بالجديد في حزب (الأمة القومي) وكيانه الطائفي.. وهو ما لم يكن لأحد غيرها القيام به لما كان لها من خصوصية.
إن غياب السيد “أحمد الميرغني” والسيدة “سارة الفاضل المهدي” في الحزبين الكبيرين يومئذ، حزب (الأمة القومي) والحزب (الاتحادي) بمسمياته، لم يكن ليعوض إلى اليوم.. فقد كان الاثنان حكيمين وذوي بعد نظر لم يعوض، وإلى جانب ذلك كان لهما حضورهما الدائم والمستمر في حياتهما.
السيد “أحمد الميرغني” أحد رموز (بيت الميرغني والحزب الاتحادي)، لم يكن ليغيب عن المسرح السياسي الداخلي بالقدر الذي فعل ويفعل شقيقه السيد “محمد عثمان الميرغني” المرجع الأول للحزب والطائفة، ومن ثم لم يكن لأحد من كوادر الحزب (المتشاكسة والمتعاكسة) حول القرارات السياسية المهمة والمختلفة أن تدعي سند الرمز الغائب لها.. أو تصرح باسمه وتقول إن عودته ستحسم القرار لصالحها.
وما يقول به ويصرح ويصرخ الشيخ “حسن أحمد أبو سبيب” والأستاذ “علي السيد” (المحامي) هذه الأيام، وطوال فترة غياب السيد في الخارج، خير دليل وشاهد على ما نقول، فهما (أبو سبيب وعلي السيد) ضد الشراكة بين الاتحادي (الأصل) و(المؤتمر الوطني)، بل يصرحان ويعملان مع جماعة “أبو عيسى” ومن سار على دربها من الأحزاب لإسقاط النظام، وقبل ذلك سحب مسؤوليهم التنفيذيين والدستوريين من سدة الحكم.
والعاقل من يقول الآن: إن هذه المشاكسة والمعاكسة والملاسنة بين كوادر الحزب حان الوقت أن تنتهي ويلقى بمن يصر عليها خارج الحزب، ذلك أن الخلاف والاختلاف غير المؤسسي والسلمي داخل الحزب يتعين أن ينتهي أجله، ولو على سبيل ما انتهى إليه حال أصحاب المذكرة التصحيحية الإصلاحية في الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني)..!
المؤتمر الوطني – كما هو معلوم – تابع ذلك الشأن بما هو أهل له وبما يستحق حسب النظام الأساسي للحزب ولوائحه وإجراءاته الداخلية، فقد كانت هناك لجنة للتحقيق والمحاسبة وصلت إلى نتيجة ألقت بها بين يدي المكتب القيادي الذي اتخذ قراراته بشأن تلك التوصية التي رفعت إلى مجلس شورى الحزب الذي انعقد قبل أيام، وهو المؤسسة الأعلى في الحزب، فكان فصل البعض من الحزب وتجميد عضوية البعض، ثم إعطاء الجميع فرصة عشرة أيام لمراجعة الذات والامتثال لإجراءات ومعالجات المؤسسية في الحزب.
وبتقديرنا ذلك هو الإجراء الصحيح، وإن نتج عنه انشقاق وانقسام في الحزب، إذ يصر التصحيحيون على فراق حزبهم الأصل وتأسيس كيان سياسي أو جماعة معارضة أخرى، وهذا كله يبين – بالغاً ما بلغت درجة تأثيره على الحزب – أن المؤسسية في الحزب الحاكم هي الأولى والأكثر أهمية.
إن على الحزب الاتحادي (الأصل)، إن كان أصلاً بالحق والحقيقة، يتوجب على متخذ القرار فيه – (مؤسسة حزبية) أو مرجعية طائفية – اتخاذ القرار المناسب، وإن كان له ثمنه وعائده غير المناسب والمتوقع. فالمرجعية في الحزب هي السيد “محمد عثمان الميرغني” التي لها تقديراتها وحساباتها، إلا أن الواقع داخل الحزب وبين كوادره وقياداته يقول بأن هناك عدم استقرار وتفاهم بين الزعامات والقيادات التي لم يعرف حجمها ومدى تأثيرها حتى الآن، وذلك لغياب المؤسسية الحزبية ومطلوباتها. ذلك أنه ومنذ لقاء القاهرة قبل العودة إلى الداخل لم يكن هناك مؤتمر حزبي أو ما يشبه المؤتمر الحزبي ذي المندوبين المنتخبين من قواعدهم إذا وجدت.. ومن ثم فإن أمر المعالجة مسنود للسيد زعيم الحزب وراعيه، وهو (حفظه الله ورعاه) ممن يطلق عليهم هذه الأيام تعبير (المعاشيين السياسيين..!) أي من تجاوزوا سن السبعين وقاربوا الثمانين من العمر.. والأعمار في السياسة وغيرها بيد الله لا ريب، ولكن على العاقل ومن يعنى بالمسؤولية أياً كانت وضع هامش معقول لذلك الاحتمال، وبخاصة عندما يكون الهم أكبر من أن يترك للصدفة والاحتمال.
قبل سنوات، وقد تجاوز السيد “الصادق المهدي” سن السبعين وهو يقارب الثمانين من العمر الآن – حفظه الله – قال إنه بصدد الترتيب لمن يخلفه في ريادة الحزب وقيادته من الشباب، إلا أنه – في ما يبدو – نام على تلك الفكرة ولم يصحُ بعد.. فللحزب تعقيداته المرجعية الطائفية والحزبية السياسية شأن الحزب الآخر، وهو حزب السيد “محمد عثمان الميرغني”، وإلى حد ما حزب الدكتور الترابي (المؤتمر الشعبي) والحزب الحاكم (المؤتمر الوطني)، والأخير بمؤسسيته وغياب الرمزية فيه – إلى حد – يبدو مختلفاً عن الأحزاب ذات القيادات السياسية (المعاشية)، وهي أحزاب “الترابي” و”المهدي” و”الميرغني”.
إن فقد أي من هؤلاء بالعجز أو المرض أو الموت – والموت حق – له مردوده السلبي الكبير على الحزب وعلى الساحة السياسية كذلك، ومن ثم فقد حان الوقت لهذه الأحزاب أن تبحث لنفسها عن بدائل قيادية ومالية، وأن تدعم المؤسسية والهياكل الحزبية فيها، ذلك أن ذلك كله مرتبط في الوقت الآني والحاضر بهذه الزعامات والقيادات التاريخية.
ولأن هذه القيادات، بنظر المراقب والمحلل السياسي، كالسكة الحديد في أحزابها، ولا بديل للسكة الحديد إلا السكة الحديد – كما يقول البعض – فإن البحث عن بديل للسكة الحديد يظل حتمياً، وإن كان للسكة الحديد شهرتها ودورها الكبير في الحراك والانتقال من محطة إلى أخرى.
إن أزمة التجديد في كل شيء تظل تلاحق مجتمعنا السوداني، من الاقتصاد إلى الاتصالات فالخدمات والسياسة كذلك.. فالاقتصاد بطبعه عملية متطورة وتلعب فيها الظروف البيئية والاجتماعية والإقليمية دورها، شأن الاتصالات التي تلاحقها المستجدات ومطلوباتها واستخداماتها.
وقد تكون المؤسسية في الإدارة والبناء والاستدامة هي الخلف والبديل الحقيقي في تلك المجالات، ولا سيما في مجال السياسة والاقتصاد والتخطيط، فالقيادات ترحل ولكن المؤسسية إذا ما قامت على ما هو علمي وعملي وأساس، تبقى وتستمر وتعبر عن رأي الأغلبية والقاعدة الجماهيرية الحزبية في كل المستويات.
والحزب الاتحادي (الأصل) يبدو الآن أولى بالمؤسسية من غيره، فالجدل والتناوش بين الكوادر والقيادات في صفوفه لن ينتهي إلا بانعقاد المؤتمرات القاعدية والعامة في الحزب، ليعرف الجميع مواقعهم من التأييد والسند الشعبي، ليكون لهم بعد ذلك صوت يتكلمون به بما شاءوا.. أما الآن فالكل يحاول الاقتراب والسند من زعيم الحزب، وهو بعيد عن الساحة لا يقدم ولا يؤخر في الموضوع، كما يرى البعض.
إن للسيد “محمد عثمان الميرغني” زعيم الحزب الاتحادي (الأصل) والمرجع للطريقة الختمية، سنده وتأثيره في الحزب، إلا أن في الأمر (غبش)، والحال على ما هو عليه في حضوره والأكثر من ذلك عند غيابه المستدام (لا قدر الله).
الأحزاب السودانية كلها تعاني من أزمة التجديد التي تضربها منذ سنوات وربما عقود، ولكن بعضها أكثر معاناة وضيقاً بالأزمة، والأمر يحتاج إلى فحص وتحليل وتعاطي العلاج، ولو عانى المريض من تجرعه كما قال الزعيم السوفيتي “غورباتشوف” وهو صاحب نظرية (البيريسترويكا) أو إعادة البناء.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية