المشهد السياسي

التصحيحيون وتحديات المستقبل

اليوم بعد جملة تطورات خرجت مذكرة (التصحيح والإصلاح)، التي ألقى بها بضع وثلاثون من أعضاء المؤتمر الوطني، من حراك حزبي تمت مواجهته بالإجراءات واللوائح والنظم الحزبية وغيرها، إلى مرحلة أخرى هي مرحلة البحث عن وسيلة أخرى للتصحيح والإصلاح، تبدو هذه المرة من حيث التحديات أكبر من إصلاح أو حراك داخل الحزب. فالساحة السياسة كلها – وليس المؤتمر الوطني وحده – في حاجة إلى الإصلاح والتصحيح.
هناك الآن، وحسب مسجل الأحزاب في السودان، أكثر من سبعين حزباً، بعضها مشهور ومعروف، وبعضها ليس له وجود غير في سجل المواليد الحزبية، والمؤشرات كلها تقول الآن إن الدكتور “غازي صلاح الدين” وجماعته في طريقهم لتكوين كيان حزبي أو مجموعة ضغط سياسية، بعد أن فشلت كل المحاولات في إعادة المجموعة – أو الثلاثة أو الخمسة الكبار فيها – إلى صف الحزب، فمشايخ الحزب ورموزه ورجال الطرق الصوفية وغيرهم لم يوفقوا في ذلك.
وبالأمس – السبت السادس عشر من نوفمبر 2013 – كان اجتماع مجلس شورى المؤتمر الوطني، وهو صاحب القرار الأخير في موضوع المذكرة المشهورة وما تلاها من إجراءات وقرارات خاصة بمن وراءها، وقد أعطي حقه تماماً في التحقيق والمساءلة وفي إصدار العقوبات التي كان منها فصل ثلاثة أعضاء من الحزب وتجميد عضوية تسعة آخرين.
ولا يبدو أن مجلس شورى المؤتمر الوطني المذكور – حسب المصادر – سيبحر بعيداً عن الذي تم وجرى بواسطة المكتب القيادي للحزب وغيره، هذا فضلاً عن موقف رموز المجموعة الإصلاحية نفسها الذي يقول بأنها تعمل جهدها الآن بين منسوبيها ومن يتجاوبون معها، بغرض الوصول إلى حزمة مبادئ ووثيقة تفاهم يصلون عبرها إلى إعلان كيان سياسي مستقل عن حزب المؤتمر الوطني، وهذه عملية غير سهلة وتحدٍ كبير، ذلك أنه بالنظر إلى تجارب مماثلة في الأحزاب السودانية الآن، وليس المؤتمر الوطني أو الحركة الإسلامية وحدها، نجد أن من فارقوا مؤسساتهم الحزبية من أمثال السيد “مبارك الفاضل المهدي” في حزب الأمة القومي، وهو من له مقدراته المالية والحزبية وانتماؤه للأسرة المهدوية، وقد كان طموحه تأسيس حزب أمة قومي (جديد).. لم ينته به الحال إلا إلى رمز حزبي تابع لآخرين من أحزاب المعارضة (العلمانية)..! فنشاطه الحزبي الآن كله نشاط خارجي تقريباً ولا يكاد يرى أو يذكر داخلياً.
وغير السيد “مبارك الفاضل” هناك آخرون انقسموا على الحزب الأب وصارت لهم علاقاتهم بالآخرين كالحزب الحاكم مثلاً، إلا أن الأمة القومي بقيادة السيد “الصادق المهدي” هو الأكبر والأكثر بروزاً وحضوراً في الساحة السياحية.. وذلك لما يتمتع به من مقدرات مرجعية حزبية وعلاقات في الداخل والخارج.
إن المقدرات المالية والزعامية في الحزب والدولة بشكل عام هي التي ترشح من ينقسم على حزبه بالنجاح والحضور المؤثر في الساحة السياسية، وليس غير ذلك، ولو امتلك من الزعامية والخبرة ما امتلك.
والإشارة هنا – تحديداً – في الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني إلى الدكتور “حسن الترابي” وحزبه (المؤتمر الشعبي)، فقد مضى على رحيل “الترابي” عن حزبه ثلاثة عشر عاماً تقريباً، ولكن الكفة كانت دوماً ترجح لمصلحة (المؤتمر الوطني) الحزب الحاكم.. فالزعامات وغيرهم يرحلون من (الشعبي) إلى (الوطني) وليس العكس.
الدكتور “الترابي” زعيم ومفكر وله تجربته وتاريخه وعلاقاته الخارجية أكثر من “غازي صلاح الدين” و”حسن عثمان رزق” وغيرهما في الجماعة الإصلاحية والتصحيحية التي تفكر الآن في تأسيس كيان سياسي مستقل، وهذا حقهم لا ريب، إلا أن في الأمر (تحديات) وصعوبات عملية يتعين النظر إليها بموضوعية.. فالعاقل من أفاد من تجربة غيره، والتجارب الآن مقروءة ومطروحة للنظر وأخذ العبر..!
إن التسويق للأفكار والشخصيات والمؤسسات السياسية أو غيرها متاح الآن عبر الوسائط التقانية وفي حدود، لا ريب، ولكن المقدرات المالية والبرامجية والتنفيذية تظل هي الأكثر تأثيراً في التسويق والانتشار وتحقيق الأهداف، فمن ملك المال ولا يملك الرجال والخبرات لا يحقق أهدافه، لأن المال وحده – إن وجد – لا يكفي.
وبالرجوع إلى الدكتور “الترابي” وحزبه (المؤتمر الشعبي) نقول إن “الترابي” عندما رحل بخبراته وتاريخه، رحل ومعه رصيد من الخبرات الإسلامية والوطنية (رجالاً ونساء) يعد بالآلاف – تقريباً – وليس (العشرات)، مما جعل مشوار الرحيل سهلاً، ولكن ليس بالقدر الكافي الذي يقلب الميزان لمصلحته على حساب الحكم ومؤسساته، فظل الحال بين الطرفين (الوطني الحاكم) و(الشعبي المعارض) على ما هو عليه، رغم محاولات “الترابي” التي حُسبت عليه مثل:
– لقاء جنيف بين (الشعبي) و(الحركة الشعبية) بعد شهور قليلة من الانفصال، أي في فبراير 2000.
– وبعد ذلك الانخراط في تجمع “أبو عيسى” المعارض وعلاقاته المشبوهة، فمندوبه “كمال عمر” هو الأعلى صوتاً في ذلك التجمع أو ما يسمى (قوى الإجماع الوطني).
ونحن بصدد التحديات التي تواجه الجماعة التصحيحية مستقبلاً، وهي بصدد تأسيس كيان سياسي مستقل عن (المؤتمر الوطني)، نقول إن تجربة الدكتور “الترابي” والسيد “مبارك الفاضل المهدي” في الانفصال عن كيانيها الحزبيين في سنوات سابقة – وليس الآن – بحاجة إلى النظر إليها من حيث المطلوبات المستحقة والنتيجة التي انتهى إليها الحال. فمن حيث المطلوبات:
1- كان حزب الترابي (المؤتمر الشعبي) بحاجة إلى المال أكثر من القدرات والخبرات الحزبية.
2- وحزب “مبارك الفاضل” (الأمة الجديد) بحاجة إلى القدرات والخبرات الحزبية أكثر من المال.
لقد كان كلٌ من هذه (المطلوبات) المتناقضة والمختلفة عقبة في أن يحقق كل منهما أهدافه، وأهمها البناء الحزبي، رغم أن المسافة بين الأول والثاني في هذه الناحية بعيدة، شأنها شأن المال والحصول عليه بين الحزبين، فالحراك والوجود الحزبي الفاعل لا يكون في غياب هذين العاملين: المال والقدرات والخبرات القيادية. والأول هو ما تشكو منه كل الأحزاب السودانية، كبيرها وصغيرها، ذلك إنها كانت تعتمد في هذا الجانب بادئ الأمر على تبرعات واشتراكات وإحسان المحسنين، وليس الاستثمارات كما بدأ يحدث مؤخراً.. وقد ابتدرت الحركة الإسلامية السودانية وأذرعها السياسية والاجتماعية.. وللآخرين وسائلهم الأخرى في ذلك.
واستناداً على هذا وتأسيساً، نخلص إلى أن الجماعة الإصلاحية وهي تتحدث عن كيان حزبي مستقل أو مجموعة ضغط، نقول إنه يتعين عليها أن تحسب حساب المطلوبات التي سبق أن أشرنا إليها بالنسبة لحزب المؤتمر الشعبي وحزب الأمة القومي الجديد.
فـ “الترابي” بخبرته وتاريخه، و”مبارك الفاضل” بعلاقاته الخارجية – وليس لهما من مثيل وأشباه في الجماعة الإصلاحية – كان لكل منهما مشكلاته في الحزب (مالية) أو (كوادر وخبرات وقدرات).
إن الجماعة الإصلاحية وهي تهم بالإصلاح والتصحيح على مستوى أوسع من حزب المؤتمر الوطني الحاكم وحكمه، تصبح بحاجة إلى الرموز والكوادر والقدرات، ثم المال قبل ذلك وبعده.. والأمران يبدو أنهما الآن غير متاحين، فالأمر بجانبيه يحتاج إلى وقت يمكن البحث فيه عن خيارات أخرى للإصلاح والتصحيح ليس في المؤتمر الوطني وحده، كما أسلفت الإشارة، وإنما الساحة السياسية السودانية بكاملها.. إذا أحسنت الجماعة أسلوبها في التسويق لمبادئها وأفكارها، التي يبدو الآن أن بعضهم – الأستاذ حسن عثمان رزق والدكتور أسامة توفيق – حسب ما رشح وطفح في الصحف اليومية ، يسيء إليها وينفر القارئ منها.. فهما على كل حال من رموز الجماعة وعناوينها البارزة.
ونحن نقرأ الوقائع ونحللها على هذا الحال، لا نتصور أن المؤتمر الوطني برموزه ومؤسساته بمنأى عن ذلك.. وعليه لا بد أن تكون النتيجة لديه كما هي بين يدينا.. فالجماعة التصحيحية وإن فارقت حزبها لن تفعل فيه ما فعله حزب المؤتمر الشعبي ولا أحزاب المعارضة الأخرى الأكثر وجوداً وامتداداً وتأثيراً وقدرات وكوادر لا ريب.. فتحديات المستقبل أمام التصحيحية كثيرة وليست سهلة.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية