سر إعجاب الجماهير بـ"عبد الناصر"
الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر كان رئيساً لنظام شمولي لا يستطيع أحد إنكار ذلك بمن فيهم المعجبون بهذا الزعيم، كلنا يعرف أن عبد الناصر وثب إلى السلطة عبر انقلاب عسكري في 23 يوليو 1952، واستطاع أن يثبت أركان حكمه بإجراءات بوليسية، ولكن في الجانب الآخر لا يستطيع أعداء هذا الزعيم إنكار أنه تمتع بشعبية كبيرة في مصر والعالم العربي، وأن الجماهير أحبته وعاشت معه انتصاراته وغنت له، ولم يكن خروج الملايين في مصر ليلة تنحيه عن السلطة مفتعلاً بل حقيقياً.. وعندما تراجع عن الاستقالة فرح الملايين فرحة حقيقية لا رياء فيها، ويبدو شيئاً غريباً حب الجماهير لرئيس نظام عسكري دكتاتور، وعلى الذين يقولون هذا الكلام أن يرجعوا إلى المناخ العالمي السياسي والاقتصادي آنذاك أعني في أوائل الخمسينيات والستينيات.
شهدت الفترة السابقة لعبد الناصر سيادة الفكر الذي لا تستطيع أن نسميه بالشمولي، لقد كان وجود رئيس قوي قابض على كل مفاصل السلطة مطلباً عالمياً شعبياً خاصة في الدول التي تعاني من تخلف وفقدان العدالة، وكان أمام الناس النموذج الستاليني الذي استطاع نقل الاتحاد السوفيتي من دولة متخلفة مقارناً بأوروبا وأمريكا إلى دولة منافسة لها ومتفوقة عليها، فتطلع الناس إلى رئيس يقبض على كل مفاصل السلطة بقوة ويتفرغ للتنمية، ولا تشغله صراعات السلطة عن الاهتمام بالفقراء.
إذن كان أكثر الناس حماساً للنظام الشمولي الفقراء الذين حلموا بحياة رفاهية حرموا منها طويلاً، كانوا لا يمانعون في التضحية بحرياتهم السياسية لواحد من صفوفهم، مقابل عقد اجتماعي -غير مكتوب- أنه عبر هذا الطريق سيغير حياتهم للأفضل خلال عقد أو عقدين، وعبد الناصر كان من هؤلاء الفقراء في بلد امتلك فيه الباشوات آلاف الأفدنة والقصور.
حلم الناس بنظام يختصر عليهم طريق التنمية، وقد فهم عبد الناصر هذه التطلعات وتفهم المطلوب منه في أقصر وقت ممكن، ولهذا كانت البداية بالنسبة له إلغاء الألقاب فلم يعد هناك بيه أو باشا، وصادر أراضي الباشوات وكانت آلاف الأفدنة، ليس هذا فحسب بل أنه وزع هذه الأراضي على الفلاحين.. لقد أصبح الملايين فجأة من ملاك الأراضي بعد أن كانوا مجرد عمال في خدمة رفاهية الباشوات.. لا يستطيع أحد أن يتصور كيف كانت حياة الفلاح قبل الثورة وحياته بعدها.
ليس هذا فحسب بل فتح الجامعات أمام أبناء الفلاحين ليدرسوا في كل التخصصات، وأصبح التعليم مجاناً وإجبارياً في المراحل كلها، وهذا الأمر لم يحلموا به.. لقد كانت الجامعات محتكرة لأبناء الباشوات والعمد وأتباعهم فجاءت الثورة ورفعت شعار التعليم كالماء والهواء، وعاش الفقراء في مجتمع يسمح لهم بالتعليم المجاني، لا يستطيع أحد خارج مصر تصور التغيير الذي حدث في حياة الفلاحين الفقراء.. وارتفع سقف طموحات الفقراء في كل المهن والحرف.
ليس هذا فحسب، بل إن الثورة بدأت ثورة صناعية كبرى إذ أقامت آلاف المصانع التي يعمل فيها آلاف الفقراء وبرواتب كبيرة، وأضافت الثورة مليوني فدان للأراضي الزراعية، بل إن محافظات جديدة ظهرت وأصبح إنتاجها الزراعي في الأسواق، وحلت مشكلة الكهرباء نهائياً بإقامة السد العالي، بعد أن تضاعف إنتاج الكهرباء وأصبح الفلاح يتعامل مع المعدات الكهربائية الحديثة.
الذين أدهشهم إعجاب الناس بنظام عبد الناصر الشمولي وتأييدهم الجماعي له، عليهم مراجعة إنجازاته أولاً، حتى نحن في السودان تطلعنا إلى رئيس مثل عبد الناصر، وقد حاول الفريق عبود أن يكون هذا الرئيس، ولكننا لم نمكنه من ذلك، والآن لن تجد أحداً معجباً بنظام شمولي لأن تجربة البشرية علمتها أن لا شيء يعدل حرية التعبير.
سؤال غير خبيث
هل الآن يوجد من يعجب بنظام شمولي؟