عصر الجمعة!!
} الخرطوم مدينة بسط الحزن ذراعيه على خصرها.. مدينة بلا مقاهي مثل القاهرة وبيروت، وبلا دور سينما ولا مسارح ولا أندية ثقافية ولا حتى ساحات عامة يرتادها الناس وتخفف عنهم وعثاء ورهق العمل اليومي.. الخرطوم باتت مدينة يلوذ سكانها منذ المغرب لمعانقة حوائط البيوت الحزينة.. حتى في تلفازنا تلاشت مساحات الدراما للعدم، والإذاعة سكنها الخطاب السياسي، وأقلعت حتى عن تقاليدها في نثر الغناء السوداني للمستمعين.. والرياضة في بلادنا انصرف عنها المشجعون لبؤسها وخيبات وفشل المنتخبات والأندية.. وحتى حدائق (حبيبي مفلس) التي نهضت في السنوات الماضية جفت أطرافها، وشاخ عشبها، وأصبحت شرطة النظام التي تراقبها أكبر عدداً من الشباب الذين يرتادونها.. لتفريج هم وغم.
} في عصر (الجمعة) كان سكان المدينة يخرجون لوسط الخرطوم ويتبادلون الزيارات الاجتماعية وصلاً لصلاة ذوي القربى، ولكن الآن بات قطع الأرحام هو الأصل ووصلها استثناء لقلة الزاد وعثر الوصول لأمبدة من الحاج يوسف، وتمدد الفقر للجيوب، وسحق الطبقات الوسطى من المجتمع التي كانت تفرح وتغني وتنثر الحب في الطرقات.
} في هذا الواقع البائس ثمة استثناءات هنا وهناك.. وأمثلة لساحات تنثر الفرح وتغسل الدواخل المحزونة، وتجدد نشاط الجسد، وتبعث الأمل في الغد.. وسط الإحباط والأسى والأحزان ينثر اتحاد المصارعة السودانية في عصر كل (جمعة) الأفراح في القلوب وبعيداً عن الحكومة وسلطانها.. وقريباً من الشعب وتضحياته وصبره.. أصبح إستاد المصارعة في شرق النيل الواقع بالقرب من سوق ستة ساحة للفرح النبيل ولحظات للابتسامة لوجوه سكنها العبوس والكدر.. والمصارعة ثقافة عالمية.. ولعبة تجد في السودان رواجاً وشعبية ربما اقتربت من كرة القدم، ولكنها لأسباب ما لعبة لا تجد تشجيعاً من الدولة ولا اهتماماً من وزارة الرياضة، ولا حتى اعترافاً إلا في السنوات الأخيرة.. وحظها من الإعلام الرياضي شحيح جداً إلا بعض من إشراقات قناة (النيل الأزرق) وصحيفتي (حكايات) و(القوات المسلحة). في شرق النيل عصر كل (جمعة) تقام منافسات المصارعة التي جذبت إليها رواداً من كل أطراف العاصمة، حتى بات الإستاد لا يتسع لرواد اللعبة التي شهدت تطوراً كبيراً في قوانينها ولوائحها، بعد أن نهض بأعباء اتحادها نخبة من القيادات الرياضية في بلادنا.
} أصبحت للعبة المصارعة لائحة منافسات وأندية مثل كرة القدم ولاعبون يتم تسجيلهم رسمياً في الكشوفات وحركة تنقلات موسمية وجهاز تحكيم يقوده الحكم “حامدين كترة” أحد رواد اللعبة الأوائل.. ولما دخل ساحات المصارعة أحد الدبلوماسيين اليابانيين هذا العام.. بدأت اللعبة تأخذ زخماً في الساحة.. ويتوافد الدبلوماسيون خاصة شرق آسيا في عصر كل (جمعة) نحو الحاج يوسف لمتابعة المنافسات الرياضية، وشهد الأسبوع الماضي حضوراً لمحامين قادمين من البرازيل، وأضفى الوجود الأجنبي على اللعب زخماً إعلامياً خارجياً أكثر منه داخلياً.
وفي ساحات التنافس ينثر رواد اللعبة الفرح والبهجة، والمصارعون يتنافسون في مودة وحميمية وخلق قويم.
} صحيح أن رواد لعبة المصارعة أغلبهم من كردفان، باعتبارها موطن مثل هذا النمط من الرياضات، ولكن المصارعة أخذت في التمدد قومياً، وإذا وجدت قليلاً جداً من الدعم ومزيداً من الحرية وبنيات تحتية لنشر اللعبة.. أقلها ستضع الابتسامة على وجوه عبست طويلاً!!