الطلاق السياسي والـخيانة الفكريّة .. ظلم ذوي القربى أشد مضاضة!!
{ إن المتأمل للتاريخ السياسي السوداني وواقع الفرقاء على مختلف العصور والأزمان، وبمختلف المشارب الفكرية والاتجاهات الحزبية والمذهبية، يجد في الأمر سعة من مرارات الاختلاف الفاحش والطلاقات السياسية البائنة والرجعية، وكذلك أنواع وضروب شتى من الخيانات السياسية ومن أقرب الأقربين، لتقع في نفوس الساسة والقادة كوقع الحسام المهند، بل أشد!
وها هو الإمام “المهدي” – عليه الرحمة – يطلب من أهل السودان الوحدة في صف المهدية من أجل تحرير السودان من براثن المستعمر الغاصب التركي وربيبه المصري، ويذهب طالباً العون من بعض أهل التصوف الذين آووه زمناً ودهراً طويلاً، ونظموا فيه شعرهم وقصيدهم من قبيل:
وكم صام كم قام كم صلى وكم تلى
وكم بوضوء الليل كبر للفجر
ولكن ما أن أمرهم بترك بعض طقوسهم ومولدهم وأذكارهم بقوله المشهور: (إنما أنتم كقوم كان لهم تمد فجاء البحر فغطاها، فأنا ذلك البحر)، حتى حدث الطلاق دون رجعة، بل أصبح من مدحوه بالأمس في طليعة من يذمه اليوم، وجاءوا في ركاب المستعمر الجديد الإنجليزي بعد أن قبضوا الثمن! ولعل الإمام “المهدي” بما له من فطنة وحنكة علم بذلك وأحس به، لذلك كان قبل انتقاله للرفيق الأعلى كثيراً ما يذكر الأنصار بالحديث القدسي الذي أورده “ابن نعيم” في (الحلية): (يا عبادي لا تسألوا عني عالماً أسكرته بحب الدنيا، أولئك هم قطاع الطرق على عبادي).. فيا ترى كم عدد هؤلاء من قطاع الطرق في هذه الأيام؟!
وبعد ذلك يتولى الأمر الخليفة “عبد الله التعايشي” الذي رأى البعض أنهم، ولأسباب ليست فكرية ولا دينية، أحق بالملك منه، فناصبه العداء عدد غير قليل من وجهاء القوم، في ما يشابه عندهم الطلاق السياسي لعدم الكفاءة والتكافؤ، إذا شبهناه بقانون الأحوال الشخصية عندنا، الذي يأخذ عند الاختلاف بالراجح من المذهب الحنفي. ونجم عن ذلك حروب واقتتال وفتن وثورات قضت على الأخضر واليابس، وتم نفي بعض الأمراء الأبطال منهم الأمير “أب قرجة” إلى جبل الرجاف، ومات بطل آخر، “الزاكي طمل” بـ (الصبر) جوعاً وعطشاً، وتم القضاء على الفكي “أبو جميزة” في الغرب بواسطة (حجاج المهدية) الأمير “عثمان جانو” الذي أرسل تقريراً أمنياً واستخباراتياً خطيراً للخليفة في أم درمان يخبره فيه بأنه رأى أن أمر تلك الأرجاء لن ينصلح (ما لم نجعله قاعاً صفصفاً لا يرعى فيه إلا النعام)، وقد واجه الخليفة كل ذلك وصمد ثلاثة عشر عاماً في وجه أقوى الإمبراطوريات ليلاقي ربه شهيداً في (أم دبيكرات)، وعزاؤه أخرس حارسه الشخصي “أب جكة” الذي مات على حجره، وكذلك الوفاء النادر لقادة حرسه الجمهوري وعلى رأسهم الأمير المحنك الشهيد “أحمد الفضل” الذي بعد أن (فرش الخليفة فروته) استعداداً للموت، أخذ يضرب ببندقيته شمالاً ويميناً ويهتف بأعلى صوته: (يا الله نصرك.. يا الله نصرك)، لينتهره الخليفة في رباطة جأش ويأمره (الله ما أطرش تكورك ليهم متل دا، أقعد وموت موتك).. لله درهم وعليهم الرحمة!
{ وتمضي قافلة الخيانات والطلاقات السياسية لتصل بنا عبر محطات إلى موعد إعلان الاستقلال من البرلمان في 19 ديسمبر 1955م، وما تلاه من إعلان للاستقلال في الأول من يناير 1956م، وتمثل هذه النقطة أحد التشوهات الخطيرة في مسيرة الحياة السياسية السودانية، إذ أن الحزب الذي دعا للاتحاد مع مصر وأن نكون تحت التاج والطربوش المصري قد التف على الأمر لمّا وجد عزيمة وإصرار الشعب على الاستقلال التام، وبذا تمت سرقة أول إنجازات شعبنا، وسنجد لاحقاً أنها مهدت الطريق نحو سرقات فكرية كثيرة وامتصاص لثورات شتى ذهبت أيدي سبأ، وكلها لها كِفل من تلك التشوهات الأولى.
{ ولم يكن الحزب التقليدي الطائفي الآخر بأحسن حالاً، إذ إنه رغم رفعه شعار (السودان للسودانيين) الذي اشتهر به الزعيم الوطني الخالد، إلا أن أحداً لم يخبر الشعب المسكين بباقي الشعار والأمل، وهو أن يكون السودان لنا ولكن تحت التاج والغليون الإنجليزي، في طمس واضح لعين الحقيقة، ولم يتوقف الأمر كذلك، بل تم إنكار وتهميش دور الحزب الوحيد الذي دعا إلى أن يكون السودان حراً مستقلاً غير تابع لمصر، ولا لبريطانيا وإنما مستقلاً تماماً وهو الحزب الجمهوري السوداني، الذي قاده في مراحله الأولى تلك الأستاذ “محمود محمد طه”، “التني”، “إسماعيل حبة”، “محمد المهدي المجذوب”، وسنجد لاحقاً أيضاً المحاولات المستميتة لتلك الأحزاب في (قطع طاري) ذلك الحزب، حتى تستمر تلك الأكذوبة وخيانة الفكرة التي تذكرنا بما قاله الفيلسوف الفرنسي “ديكارت”: (كفى عقاباً أن يصدق الكاذب نفسه)!!
{ وعلى نفس السياق، يحدث طلاق بائن آخر بين أعضاء الحكومة الوطنية من السيد “إسماعيل الأزهري” والاتحاديين، وعلى الجانب الآخر الأميرالاي “عبد الله بك خليل” وحزب الآمة والأنصار من جانب آخر، ليقدم رئيس الحكومة وفي نادرة سياسية على تسليم السلطة للفريق “إبراهيم عبود” الذي نفذ أمراً صدر له من جهة سيادية عليا، وبعد ذلك لمناه ونعتناه بكل الصفات، دون جريرة ارتكبها سوى أنه كان جندياً مخلصاً استجاب لنداء وطنه وأمر من رؤسائه المباشرين بعد أن اتفقنا على أن لا نتفق، فكان كمن قال:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له
إياك إياك أن تبتل بالماء
{ ولم يجرؤ مؤرخونا الأفذاذ على ذكر من قام بذلك الانقلاب المزعوم فعلاً!! ومن الذي سلم حكماً ديمقراطياً للجيش منعاً لمنافس من تولي السلطة وديمقراطياً أيضاً؟ ومن الذي نبه الجيش السوداني وجذب انتباهه لعالم السياسة لما رآه من ضعف أداء وعدم وضوح الرؤية، وسن سنة الانقلابات التي سيعاني منها بلد المليون ميل كثيراً، وستكون سبباً أيضاً في انقلابات مضادة وانفصال، ومناطق ثلاث، ومشورة شعبية، وقوات أممية وأفريقية.. وهلم جرا؟!
نواصل