المشهد السياسي

نعم .. التخلية قبل التحلية..!

عرف السيد “الصادق المهدي” كمفكر وكاتب وباحث – قبل أن يكون سياسياً – بأنه مجدد في التعبير، وصاحب مفردات لغوية جاذبة ومعبرة، ومن هذه ما جاء منه لصحيفة (أخبار اليوم) السودانية في الحلقة قبل الأخيرة من استنطاقها له في الشأن السياسي، وهو يدعو إلى نقد الذات في الممارسة السياسية تاريخاً ومعاصرة، قبل الولوج إلى المرحلة الجديدة، أو ما دعاه (التخلية) قبل (التحلية)، وهو ما اتخذنا منه عنواناً لـ (المشهد السياسي) اليوم.
هناك أخطاء وسلبيات في التجربة الحزبية والسياسية وممارسة السلطة، ينبغي لصاحب التجربة أن يعترف بها ويتخلى عنها، ليخطو إلى الأمام وهو معافى، وفي حالة تنتهي به إلى ما هو حلو، وهذا هو المطلوب.
ومما يجدر ذكره هنا أن السيد “المهدي” الذي له تجربته الشخصية والإلمام الكامل – تقريباً – بما سبقه على الساحة السياسية، تطرق إلى ما دعاه (النقد الذاتي للتجربة الديمقراطية)، وفي ذلك الإطار وحسب الصحيفة أعاد ذكر ما يلي:
– انقلاب (17) نوفمبر 1958 كان صاحب الفكرة فيه “عبد الله خليل” رئيس الحكومة في فترة لاحقة.
– وبيان السيدين “المهدي” و”الميرغني” المؤيد للانقلاب كان خطأً برأي الإمام الحفيد.
– والتجربة الديمقراطية بشكل عام أخطأت في إدارة التنوع والتأقلم مع ظروف البلاد الاجتماعية.
أكثر من هذا أضاف “المهدي” لذلك أن الحكم الائتلافي – وقد كان له نصيبه فيه – منه كان فاشلاً..! وهذا ما لا ريب فيه أو خلاف، لأن الحكومات الديمقراطية المتعاقبة ومنذ حكومة “الأزهري” الأولى كانت حكومات ائتلافية، وبشكل خاص في الديمقراطية الثالثة، أي ما قبل الإنقاذ في (30) يونيو1989، إذ لم تسفر الانتخابات في كل الأحوال عن أغلبية حزبية يمكن لها الانفراد بالسلطة، وفشل الحكومات الائتلافية يعزى في كل الأحوال إلى أن أحزابنا السودانية ليست لديها ثقافة الشراكة في السلطة والعمل للمصلحة القومية قبل الحزبية، وهذه علة نحسب أنها ما تزال قائمة وتسعى بين الناس.
ولا ندري إن كانت وصفة (التخلية قبل التحلية) ستشمل هذه الحالة وحالات مماثلة، منها عدم الاعتراف للآخر بما أنجز وما أخفق فيه على السواء، فقد كان شعار الأحزاب وفي مقدمتها حزب السيد الإمام “الصادق المهدي” بعد الانتفاضة في رجب – أبريل 1985 (محو آثار مايو) خيرها وشرها.. وهو ما لم يكن مقبولاً بحال من الأحوال، شأن الصمت في الظرف الحالي عن إنجازات النظام والحديث عن إخفاقاته – عندما توجد – بالصوت العالي..!
“المهدي” – على كل حال – قال في لقائه الصحفي المشار إليه وهو ينتقد التجربة الديمقراطية ويورد ما أورد في ذلك السياق: نحن على استعداد لأن تكون التجربة القادمة مبرأة من تلك السلبيات، بغرض إعمال مبدأ (التخلية قبل التحلية).
فهل ستكون هذه هي (البوصلة) وخارطة الطريق التي سيسير عليها “المهدي” من الآن فصاعداً، أم هي (كلام والسلام) كما يقول البعض..؟!
لقد اعتمدت هذه الحكومة، ومنذ مؤتمرات الحوار الوطني حول القضايا المختلفة في مفتتح عقد التسعين من القرن الماضي، نظام اللامركزية الواسعة، الذي شمل مجمل الأطراف والولايات بغرض سد الفجوة وإدارة التنوع، والمشاركة في اتخاذ القرار وقسمة السلطة والثروة. وهو تطور لم يعرف على هذا النحو من قبل، رغم ما عرف من حكم إقليمي بعد اتفاق السلام في أديس أبابا 1972. فقد صار لكل ولاية حكومتها ومجلسها التشريعي ثم الهيئة التشريعية القومية (البرلمان)، والموازنة الخاصة بها بغرض التنمية والإدارة والخدمات الولائية، بالإضافة إلى برامج التنمية القومية. ولعل عدداً من الولايات قد أفلحت في ذلك وتذكر أمام شعبها وفي الرأي العام بالخير، ويمكن أن يشار هنا إلى ولاية البحر الأحمر التي خطت خطوات كبيرة في تطبيق اللامركزية الواسعة وتحويلها إلى أداة بناء وسد الفجوة وإدارة التنوع، والتأقلم التي قال “المهدي” إن التجربة الديمقراطية أخطأت فيه وأخفقت، وحان الوقت للاعتراف بذلك والتخلي عنه وصولاً إلى (التحلي) أو المرحلة المستقبلية التي يتطلع إليها..!
إلا أنه، وثقافة البناء (طوبة فوق طوبة) والاعتراف للآخر بفضله غير موجودة أو متاحة في أحزابنا السياسية، فإن (المعارضة معارضة والحكومة حكومة ولن يلتقيا..!)، ذلك أن معارضة اليوم هي حكومة الظل في الغد – كما هو معروف في العالم الخارجي – غير مألوفة أو معروفة في أدبنا السياسي الحزبي، فالأمر كله سلوك وممارسة يحتاج إلى عملية (تخلية) لتصبح (التحلية) ممكنة.. ونقطة البداية في كل الأحوال هي مراجعة التجربة الحزبية ونقدها على يد أهلها، ويد النخبة التي تعنى بالبحث والتشخيص والدراسة.
لقد أكد السيد الإمام “الصادق المهدي”، وهو صاحب تجربة على صعيد النقد الذاتي للتجربة الديمقراطية، أن (الحكم الائتلافي كان فاشلاً..!) ولعل ذلك ما أشار إليه الراحل الشريف “زين العابدين الهندي”، أحد كبار رموز الحزب الاتحادي الشريك في الائتلاف الحكومي مع حزب “المهدي” قبل التغيير في (30) يونيو 1989 أو ليلة التغيير تحديداً: (هذه الحكومة لو خطفها كلب.. ما قلنا له جر..!)، وذلك قمة الزهد في تلك الحكومة الائتلافية بين حزب الأمة والحزب الاتحادي وبعض أحزاب (الفكة) كالحزب الشيوعي..!
وإذا ما عرض فشل الحكومات الائتلافية على خبير في الطب السياسي يجد أن السبب يعود إلى غياب الثقافة والبرامج المشتركة بين الأحزاب المؤتلفة، وإلى عدم التناغم والتعاون بين أفراد الحكومة الائتلافية من وزراء ومسؤولين ومتخذي قرار، وبالنظر إلى حكومات ما بعد الانتفاضة وقد كانت كلها ائتلافية بقيادة حزب الأمة القومي وزعيمه “الصادق المهدي”، يجد أن تلك الحكومات كانت قصيرة العمر، أي لم تستمر لأكثر من نصف عام، لتحل محلها حكومة ائتلافية أخرى بسبب النزاع بين الأطراف المشاركة أو التغيير في البرامج والسياسات، وما يشار إليه هنا شاهد على ذلكم ليس بقليل إذ:
– أدى الخلاف على مرشح الحزب الاتحادي “أحمد السيد حمد” – لمجلس الرئاسة – إلى فض الائتلاف، كما أدى الخلاف على اتفاق الاتحادي مع الحركة الشعبية لتحرير السودان SPlM)) إلى فض الائتلاف من قبل ودخول الجبهة الإسلامية سدة الحكم.
– كما أدى الائتلاف الواسع الأخير بدخول الحزب الشيوعي وآخرين، إلى خروج الجبهة الإسلامية، وهكذا كان الاختلاف على عدم وجود برنامج ثابت ومتفق عليه بين الجميع هو السبب في عدم استقرار الحكومات في العهد الديمقراطي، وعلى نحو خاص في الديمقراطية الثالثة – ديمقراطية ما بعد الانتفاضة في رجب – أبريل 1985.
ورغم أننا ذكرنا في (مشهد سياسي) سابق بعنوان (الشيوعي وفقه الاستطاعة السياسي) بتاريخ (30) أكتوبر 2013، أن الحزب الشيوعي السوداني ببيانه الأخير الذي نشر في الصحف بات يقرأ ما يجري في إطار فقه الاستطاعة وأن السياسة فن الممكن، إلا أن المسافة لا تزال بعيدة في فقهنا السياسي وثقافتنا عن (التخلية قبل التحلية..!)، الوصفة التي دعا إليها السيد “الصادق المهدي” في إطار قراءته للتجربة الديمقراطية بحكوماتها الائتلافية في بلادنا.. وهو صاحب خبرة وممارسة كما قلنا.
ليس غياب الثقافة والبرامج المشتركة وحدهما هما المهدد للاستقرار والمضي في الديمقراطية كأداة لإدارة الهم العام، وإنما الرموز الحزبية والسياسية ذات الصوت العالي في توسيع الشقة والمسافة بين الأحزاب والكيانات السياسية، وهي معروفة ولها تصريحاتها وسلوكياتها المنفرة ذات العداء السافر.. وإن ادعت أنها تمثل حزبها وتنطق باسمه.
فكيف بحكومة ائتلافية أو قومية بين الأحزاب السياسية، ومن ذكرنا بعضهم رموز في أحزابهم، بعض مكونات تلك الحكومة والإدارة التنفيذية التي ينتظر منها حسن الإدارة للشأن العام، بإجماع واتفاق تام شأن اتخاذ القرارات والسياسات بعد عبورها مرحلة إبداء الرأي.
إن من حق الحزب الغالب أن يبدي وجهة نظره وقراره في التركيبة الوزارية الائتلافية وفي البرنامج العام، أو خريطة الطريق التي تسير عليها، وهي الدستور الذي يمر عبر البرلمان والاستفتاء الشعبي، بيد أنه وبطبيعة الحال لا يغفل رأي الآخر، ولكنه لا يقبل بكل الأسماء التي يلقى بها إليه لسدة الوزارة، فالتناغم والتجانس والتواؤم مطلوب في كل الأحوال.
إلا أنه رجوعاً إلى هذا يكون الأفضل دوماً أن يكون هناك حزب غالب ديمقراطياً وانتخابياً يصبح الحكم له أو عليه في جولة قادمة، كما الحال في البلاد الأخرى.. وإلا فإن الائتلاف الضيق، المتناسق والأقل ضرراً وزعزعة للحكم يصبح من الضرورات وهو الأنسب..
وكما جعلنا عنواناً ونقطة انطلاق وحراك لهذا (المشهد السياسي) نقول: نعم.. التخلية قبل التحلية.. وشكراً للسيد الإمام “الصادق المهدي” ولمحاوره “عادل البلالي” وصحيفته (أخبار اليوم) ..!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية