تقارير

«أبيي» .. سيناريوهات التقسيم المحتمل!!

لا يبدو المقترح الذي تقدم به المؤتمر الشعبي قبل أيام بتقسيم منطقة أبيي بين المسيرية ودينكا نقوك أمراً جديداً، فقد سبق أن أثير الأمر كثيراً من قبل المجتمع الدولي والحكومة السودانية، بالإضافة إلى عدد من المراقبين، وربما كثيرون رأوا فيه الخيار الأكثر عقلانية من بين مجمل الحلول المطروحة حالياً، خاصة مع تفاقم الأزمة واكتمال الاستفتاء الذي أجرته قبائل دينكا نقوك الذي جاءت نتيجته برغبة (99%) من أبناء القبيلة في الانضمام إلى دولة الجنوب، إلا أن عدم اعتراف المجتمع الدولي والحكومة السودانية، وحتى حكومة الجنوب، تضعه ليس أكثر من مجرد (حصر سكاني) حسب أمين عام جبهة تنمية أبيي «محمد عمر الأنصاري».
إذن يظل خيار تقسيم أبيي أكثر الخيارات للمنطقة الغنية بالنفط والمراعي والمياه العذبة.
تقع منطقة أبيي في الشريط الحدودي بين شمال السودان وجنوبه، تحدها من ناحية الشمال ولاية جنوب كردفان (جبال النوبة ومناطق المسيرية)، وجنوباً ولاية شمال بحر الغزال وبحر العرب، وشرقاً ولاية الوحدة، وغرباً ولاية جنوب دارفور.
ولم يتمكن الطرفان في مفاوضات نيفاشا- التي امتدت من عام 2000 إلى نهاية 2004 – من التوصل إلى حل معضلة أبيي حتى تقدم «جون دانفورث» مبعوث الرئيس الأمريكي في مايو 2004م بمقترح مفصل مكتوب، وافق عليه الطرفان، وأدرج ضمن اتفاقية السلام الشامل تحت مسمى (بروتوكول أبيي).
ومبعث الأمر أن الحركة الشعبية أصرت على استثناء أبيي مما اتفق عليه في إعلان المبادئ من أن الحدود بين شمال السودان وجنوبه هي ما تركته الإدارة البريطانية عند الاستقلال عام 1956م لأنها كما تقول أخذت من بحر الغزال وضمت إلى مديرية كردفان عام 1905م لأسباب إدارية، وهي منطقة تضم قبائل جنوبية عريقة لا ينبغي أن تكون جزءاً من الشمال العربي.
وترجع طبيعة الصراع بين المسيرية ودينكا نقوك إلى أسباب كسب العيش (الرعي) والموارد والمصادر الطبيعية الشحيحة في تلك المنطقة، والتحولات السياسية السودانية لعبت دوراً كبيراً في منطقة أبيى وبحر العرب وأصبحت هذه المنطقة نموذجاً فعلياً وحيوياً لدراسة أثر الحرب على حياة الناس وثقافتهم وانعكاس ذلك على طبيعة حياتهم وتفكيرهم وقيمهم.
ورغم إشارة لجنة خبراء مفوضية حدود أبيي بأن الموظفين الإنجليز قد اعتقدوا خطأ منذ احتلالهم السودان وإلى عام1905م بأن (الرقبة الزرقاء) هي بحر العرب، إلا أن ذلك لا ينفى حقيقة أن المسؤولين في فترة الحكم التركي والدولة المهدية إلى جانب أعضاء المسيرية والدينكا، قد كانوا على دراية تامة بأن بحر العرب وليس (الرقبة الزرقاء) هي الحدود الطبيعية الفاصلة بين مديرية كردفان ومديرية بحر الغزال، وكان «هندرسون» يعني بحر العرب عندما أشار إلى أهميته كحاجز بين دينكا بحر الغزال والعرب وتحسينه للعلاقات بينهما، مما يثبت أن المنطقة الممتدة من (الرقبة الزرقاء) إلى بحر العرب تقع في إطار الحدود الجغرافية لمديرية كردفان، وكانت المجال الحيوي ومنطقة نفوذ المسيرية.وأرجع عدد من الباحثين والخبراء أصل الصراع في منطقة أبيي إلى فقدان المنطقة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وضعف الهيكل الإداري والسكاني استيطاناً من حيث التاريخ مع عدم تخطيط الحدود لمنطقة أبيي توثيقاً بالخرائط.
{ ما بين الرعاة والزراع تكمن الأزمة
قبائل المسيرية تحترف مهنة الرعي، فيما تحترف قبائل الدينكا مهنة الزراعة، وهو أمر يجعل القبيلتين في حالة سعي إلى توفير الموارد المائية من بحر العرب الذي يمثل المصدر المائي الأهم في المنطقة.
احتدم الخلاف حول حدود المنطقة التي حولت في ذلك التاريخ البعيد من الجنوب إلى الشمال، وحلاً لذلك الاختلاف اتفق الطرفان على تشكيل مفوضية لترسيم الحدود تتكون من (15) عضواً، خمسة منهم يسميهم حزب المؤتمر الوطني الحاكم، وخمسة تسميهم الحركة الشعبية، والآخرون هم خبراء دوليون من الدول الراعية للمفاوضات.
وأكد تقرير الخبراء أنه فشل في معرفة حدود 1905م، ومع ذلك منح دينكا نقوك منطقة واسعة تمتد أكثر من (100) كيلومتر شمال بحر العرب، كانت تعدّ من صميم أراضي عرب المسيرية الذين ينتقلون معظم شهور السنة شمالاً وجنوباً من بحر العرب، فليست لديهم قرى مستقرة مثل الدينكا الذين يعملون أساساً بالزراعة، وقد رفضت حكومة السودان تقرير الخبراء فوراً على أساس تجاوزه صلاحيات المفوضية في ترسيم حدود المنطقة.
وفي حال حدث تقسيم للمنطقة بأن تؤول المناطق جنوب البحر إلى دينكا نقوك وتحوز المسيرية على شماله، فإن ذلك يمكن أن يركز كل المياه في أماكن الدينكا، حسب الدكتور «محمد أحمد بابو» الخبير في مناطق التماس، الذي أكد أن أي تقسيم ينبغي أن لا يكون جنوباً وشمالاً لأن في ذلك ظلماً كبيراً للمسيرية، ويجب أن يكون شرقاً وغرباً، كما أن التقسيم لابد أن يكون دولياً.
استمر الخلاف بين الشريكين بسبب مشكلة أبيي ثلاث سنوات بعد تسلم تقرير الخبراء، انسحبت فيها الحركة محتجة من مجلس الوزراء الاتحادي، ووقعت معارك دامية في المنطقة قتل وشرد فيها الآلاف، وأخيراً توصل الطرفان في يوليو 2008م إلى عرض النزاع على المحكمة الدائمة للتحكيم في لاهاي بعد إصرار الحكومة على رفض تطبيق تقرير الخبراء.
{ حكم لاهاي
وفي 22 يوليو 2009م أصدرت محكمة التحكيم الدولية في لاهاي قرارها، وقضى بتقليص حدود منطقة أبيي من (18500) كلم مربع إلى (10) آلاف كلم مربع، وبناء عليه أصبحت الحدود الشمالية للمنطقة عند خط العرض (10.10) وعدّت المحكمة أن لجنة الخبراء المكلفة بترسيم حدود المنطقة، قد تجاوزت المهمة الموكلة إليها، وألغت قرارها بشأن الحدود الشمالية، والشرقية والغربية، واعتمدت ترسيمها للحدود الجنوبية. وبالتالي أخرج القرار حقول النفط في منطقة هجليج خارج أبيي، ليبسط الشمال سيطرته على هذه الحقول، كما أقرت المحكمة بحقوق الرعي للقبائل في منطقة أبيي بغض النظر عن نتيجة قرار التحكيم.
ورأت المحكمة أن الحدود الغربية للمنطقة هي خط طول (27.50) درجة، والحدود الشرقية عند خط طول (29) درجة، وأبقت المحكمة الحدود الجنوبية عند دائرة عرض (10.10.10).
{ سيناريوهات التقسيم
الفريق شرطة «عبد الرحمن حسن عمر» محافظ أبيي الأسبق قال إن مسألة أبيي من الملفات الشائكة جداً في اتفاقية السلام، ومرت بمراحل عصيبة للغاية، ومن ضمنها تقرير الخبراء الجائر، بالإضافة إلى تغول دينكا نقوك على إدارة أبيي في مرحلة من المراحل، مشيراً في حديثه لـ(المجهر) إلى أن البروتوكول في نهاية المطاف تحول إلى مصفوفة تم التوقيع عليها في أديس أبابا تتحدث عن إنشاء إدارة مشتركة بين نقوك والمسيرية، لكن للأسف حاول الدينكا حيازة نسب أكبر في الإدارية والمجلس التشريعي، وأضاف محافظ أبيي الأسبق: (كانت المقترحات في التفاوض أن يتم تقسيم المنطقة جغرافياً بأن يذهب جنوب بحر العرب للدينكا ويذهب الشمال للمسيرية إلا أن الحركة الشعبية رفضت هذا المقترح لأنها كانت تعول على إجراء استفتاء منفرد مثلما حدث من النقوك خلال الفترة السابقة).
وأوضح الفريق «عبد الرحمن» أن رؤيته للحل تكمن في أن تكون هناك إدارة مشتركة، ويتم التركيز على توطين التنمية حتى يستفيد كل أبناء أبيي من مواردها، لافتاً إلى أن بعض سياسيي قبيلة دينكا نقوك يراهنون على الأرض حتى يتمكنوا من الحصول على مناصب سياسية في حكومة الجنوب، لكن حكومة «سلفاكير» فطنت لهذا الأمر مؤخراً، وقللت من نفوذ أبناء دينكا نقوك الذين يدعمون من جهات كثيرة منها منظمات كنسية ويهودية.
من جهته، كشف الأمين العام لجبهة تنمية أبيي «محمد عمر الأنصاري» أن أراضي أبيي تقدر بحوالي (17) ألف كيلومتر مربع، وفي حال خضعت لخيار التقسيم فإن المسيرية سيكون نصيبهم نحو (10) آلاف كيلومتر مربع، بينما تؤول السبعة آلاف كيلومتر إلى قبائل النقوك، مضيفاً إن حدود المسيرية ستمتد من منطقة البنطون جنوب غرب من بحر العرب وتتجه شمالاً نحو ديار المسيرية، وتضم المنطقة مدينة أبيي ذاتها وحقول (الرقبة الزرقاء) الزاخرة بالمراعي، بالإضافة إلى منطقة (دولي) التي تمر بها أنابيب البترول، وهي منطقة زراعية وحقل (دفرة) النفطي، كما تضم أيضاً مناطق (الخير) و(شقي) الغنية بالمياه والحشائش، أما قبائل دينكا النقوك فستحصل على مناطق (الند) و(أقوك) الغنية بالحشائش والمراعي وبها أيضاً مطار، وأبان «الأنصاري» أن التوزيع سيكون عادلاً، فالمسيرية سيحصلون على (50%) من المراعي، وهي ذات النسبة التي ستكون من نصيب دينكا نقوك، منبهاً إلى ضرورة وجود الجنسية المزدوجة والحريات الأربع في حال الاتفاق على خيار التقسيم، لأن عدداً من أبناء المسيرية ستكون لديهم منازل وعقارات في مناطق النقوك وذات الأمر سيكون عليه الحال بالنسبة لأبناء دينكا نقوك.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية