«الصادق المهدي».. قراءة في مآلات التصريحات والتلميحات!!
ثمة رسائل وإشارات لم تكن خافية في خطاب رئيس الجمهورية قبل أيام في فاتحة أعمال الهيئة القومية التشريعية.. رسائل صريحة تناولت القضايا الكبرى، مثل الإعداد للدستور، والتداول السلمي للسلطة، وقضية أبيي وجنوب كردفان والنيل الأزرق، والأوضاع الاقتصادية، والعلاقات الخارجية. ولكن ثمة رسالة يمكن عدّها في عداد الرسائل الضمنية التي بعث بها رئيس الجمهورية إلى المعارضة، بعد أن تبنى المقترح الذي دفع به زعيم حزب الأمة القومي الإمام «الصادق المهدي» حول تكوين المجلس القومي للسلام، وقال وقتها الرئيس بعبارات صريحة: (تأسيس مجلس قومي للسلام يقوم على ابتدار سياسات ذات طابع قومي إزاء التحرك نحو السلام، ومتابعة خطوات استكماله وتنفيذ التزاماته، وسنجري مشاورات سياسية واسعة في هذا الخصوص)، وتلك العبارات الصريحة ربما كانت تخبئ خلفها بعض رسائل مباشرة وواضحة إلى قوى المعارضة، وهذا هو المقترح الذي قدمه إمام الأنصار إلى الرئيس إبان لقائهما الأخير بضاحية الملازمين، ويعيد هذا الأمر ربما من جديد مسألة التقارب الكبير بين الإنقاذ و«الصادق المهدي» الذي عدّه مراقبون ينضج على نار هادئة تزيده الأزمات التي تتعرض لها الحكومة تقارباً.
وقد اتفق «البشير» رئيس حزب المؤتمر الوطني الحاكم و«الصادق» رئيس حزب الأمة على قومية قضايا الحكم والدستور والسلام، منوهين إلى أهمية إشراك الجميع فيها دون إقصاء لأحد أو هيمنة لآخر. ووصف وقتها «البشير» اللقاء، الذي تم ببيت «المهدي» بالملازمين، بالمثمر والجاد.
وأكد «الصادق المهدي» أن الطرفين اتفقا على قومية قضايا الحكم والدستور والسلام، بجانب مواصلة الحوار بين الحزبين لإبرام الاتفاقيات المنشودة بمشاركة الأجهزة الحزبية المعنية، وانتهى اللقاء ساعتها، وبدأت معه حزمة من التحليلات والتكهنات السياسية حول دور مرتقب لـ«الصادق المهدي» على الأقل على مستوى ما سيقدمه من أفكار تساهم في حل بعض القضايا القومية الشائكة والعالقة.
المحلل السياسي «عبد الله آدم خاطر» قال إنه ليس بالضرورة أن تكون استشارة، ولكن فكرة المجلس القومي للسلام، حسب رؤية «الصادق» التقليدية، أن قضايا البلد لا بد أن تحل في إطار تحاور وتفاكر من كل الأطراف، وأشار «خاطر» إلى تجربة التراضي الوطني في توسيع قاعدة الحوار السياسي في السودان بوسائل مختلفة، وتابع: (السلام قضية جوهرية في وقت تنطلق فيه كل الأطراف نحو السلام، ويبدو أن الإمام «الصادق المهدي» طرح الفكرة لفتح المجال للرأي العام السياسي، بما فيها قضية الدستور، الذي يحفظ للناس حقوقهم وأن يكون هناك مستقبل لا مركزي)، وأضاف: (في هذا السياق أتفهم دعوة الصادق ورغبته في توسيع مواعين المشاركة الديمقراطية، وإذا كان البشير قد أعلن ذلك في منبر عام وفي خطاب رسمي فيعني أن تلك خطوة أخرى لمستقبل يمكن أن يبنى للجميع).
ولكن، هل من الممكن أن يشارك «الصادق المهدي» في وضع أسس عامة لكثير من سياسات الحكومة خلال الفترة القادمة بما فيها قضايا الدستور وكيفية الوصول إلى حلول ناجعة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وغيرها من أماكن الصراع، التي تبدو ملتهبة للغاية في المشهد السياسي السوداني..؟! هذا السؤال رد عليه «خاطر» بالإيجاب بقوله إن ذلك يبدو ممكناً إذا فهمت مشاركاته تلك في إطار الاستقلال عن الحزب الحاكم والحكومة وأن تأتي في الإطار القومي.
{ خطوات تقارب
وثمة سؤال قد يقفز مرة أخرى حول هل هدفت الحكومة من تبنيها لأطروحات «الصادق المهدي» إلى إيصال رسائل إلى المعارضة بأنها تقبل الأطروحات الجادة؟ مثلما قال لـ(المجهر) د. «مصطفى عثمان إسماعيل» بأن تكشف عن جدية الحكومة في التعامل مع المبادرات الجادة، مرسلاً في ذات الوقت دعوات إلى القوى السياسية بأن تتقدم بمقترحات متكاملة حتى ترى النور، إلا أن «خاطر» استبعد أن تكون الحكومة تسعى إلى تجميل وجهها، وقال إنها ماضية في نزاعاتها في الأطراف والأزمة الاقتصادية على أوجها، ومشروعها ليس للتجميل، ولكنه للاستمرار رغم أنف الجميع بالاستفادة من أية فرصة قد تتاح لها، وأضاف: (الحكومة تسعى إلى أن تمضي في اتجاه أن تكون الشريك الأساسي في حل قضايا البلد في المستقبل، وعندما تصل إلى الانتخابات تحكم لدورة قادمة ولكن الصادق المهدي، وبقية القوى المعارضة تؤكد أنه من المستحيلات أن تستمر مجموعة واحدة في حكم البلاد إلى ما لا نهاية)، وأردف: (الحكومة جادة جدا في أن تحكم البلاد إلى ما بعد 2015م).
رمى الإمام «الصادق المهدي» الكرة في ملعب الحكومة بأن دفع بحزمة أطروحات خلال لقائه برئيس الجمهورية مؤخراً، ويبدو أنه بات ينتظر خطوة المؤتمر الوطني القادمة، وأرجعت الحكومة ذات الكرة إلى ملعب «الصادق المهدي» مرة أخرى بأن أعلنت تبنيها لمقترح المجلس القومي للسلام.
خلال حوار سابق أجريته مع «المهدي» حول اشتراطات مشاركتهم في الحكومة رد إمام الأنصار بقوله: (نحن أصلاً لن نقبل المشاركة في السلطة مهما عرضت علينا إلا على أساس مبادئ، والعبارة التي نقولها دائماً: (لا يهم من يحكم السودان ولكن كيف يحكم السودان)، فليحكم السودان أي من بنيه، وطول الزمن المؤتمر الوطني يعرض علينا المشاركة ونحن بنقول مافي مشاركة ما لم يتفق على أساس ديمقراطي، وفي كل الأحوال أساس النظام عندنا هو النظام الديمقراطي.. قالوا لينا تعالوا اشتركوا في لجنة الدستور وقلنا مافي مانع نحن مستعدين، ولكن بشرط، أن تكون الهيئة التي تدعو للدستور مستقلة وليس من المؤتمر الوطني ولا الحكومة، وأن تكون شاملة للناس لا تعزل أحداً ولا يسيطر عليها أحد، وأن يتضمن الدستور مبدأ إعطاء كل ذي حق حقه في إطار اتفاقيات السلام، بحيث إن اتفاقيات السلام تضمن الدستور حتى يكون الدستور وثيقة تتضمن الحقوق، كذلك ضرورة توافر الحريات، لذلك نحن قلنا للوفد الحكومي الذي دعانا للمشاركة إذا توافرت هذه الشروط نحن سنشترك وسنقنع آخرين ليشاركوا، وإذا لم تتوفر هذه الشروط لن نشترك).. انتهى كلام «الصادق»، ولكن ثمة أسئلة مهمة ومحورية تطل برأسها مجدداً حول استحقاق قادم وهو المشاركة في الدستور.. الحكومة تبنت مقترح «الصادق» حول آلية السلام، وتبقى ما هو قادم حول الاشتراطات التي وضعها «الصادق المهدي» للمشاركة في صياغة الدستور فهو، حسب ما أكده، لا يمانع في هذا الاتجاه ولكنه يرهن قبوله بحزمة إجراءات.. وهو الأمر الذي قد يعيد الكرة إلى ملعب الحكومة مرة أخرى.. وتظل الكرة تتأرجح ما بين «الصادق المهدي» والمؤتمر الوطني.
{ استقالة «الباشا».. قراءة أولى
تقارب الوطني مع الإمام «الصادق المهدي» يبدو أنه حرك الأجواء داخل الحزب بأسرع مما كان متوقعاً، فقد فاجأ القيادي بحزب الأمة القومي «عبد الجليل الباشا» الجميع قبل أيام بتقديم استقالته من الأمانة العامة لحزب الأمة القومي، ورغم أن «الباشا» صحح المعلومات التي تناقلتها الوسائط الإعلامية أمس عن أن استقالته لم تكن من حزب الأمة، وإنما كانت من الأمانة العامة للحزب، مشيراً إلى أنه لا يود الخوض في تفصيلات استقالته، لافتاً إلى أنه يكتفي بالبيان الذي أصدره خلال الوقت الحالي، إلا أن نص البيان أشار فيه إلى أن استقالته جاءت بسبب حزمة أشياء من ضمنها ما أورده في البيان بقوله: (إن الخط السياسي الذي صممت على أساسه خطة العمل وصلنا فيه لنتائج إيجابية خاصة في علاقتنا بالإجماع الوطني والجبهة الثورية، إلا أن كل هذه المجهودات قد أصبحت في مهب الريح في ظل مبادرات غير مسنودة بآليات ضغط جماهيري، وتكتيكات سياسية جعلت موقفنا مربوكاً وغير واضح وغير متسق مع المواثيق والالتزامات المشتركة مع القوى المعارضة، مما ولد فجوة ثقة بيننا وبين حلفائنا في المعارضة، وقد يقود هذا الموقف لإضعاف المعارضة وتقوية النظام، كما أن الظروف والإشكالات الكثيرة التي تعرضت لها الأمانة العامة جعلتها غير قادرة على حماية صلاحياتها واختصاصات منسوبيها التنفيذية، مما أدى إلى تداخل في الصلاحيات وتغول على الاختصاصات بشكل فوضوي، باستغلال عدم قدرة المؤسسات على الحسم لأسباب قد تكون موضوعية أو ذاتية، بالإضافة إلى طريقة إدارة الملف السياسي والتنظيمي بالحزب التي قال إنه يشوبها الكثير من العلل المقعدة بالعمل الاتصالي، خاصة في عملية اتخاذ القرارات وعمليات حوار وتفاوض خارج الدائرة المسؤولة من الاتصال مع (المؤتمر الوطني وسائحون وإصلاحيي الوطني على سبيل المثال) وعزلنا الكثير من اللجان والوفود التي تتطلب طبيعة عملها وجود مسؤولي الاتصال، وهنالك مهام هي من صميم عمل الدائرة يقوم بها آخرون بشكل يتقاطع مع المؤسسية فهماً وممارسةً ويحدث تضارباً في الاتصال مع الآخر).
ولا يمكن قراءة استقالة «الباشا» بمعزل عما يدور داخل أروقة حزب الأمة، وتقارب بينه وبين المؤتمر الوطني، وهو ما أورده صراحة بما عدّه تحركات غير مسنودة بآليات ضغط جماهيرية تقود إلى إضعاف المعارضة وتقوية النظام، حسب نص البيان، مع الأخذ في الاعتبار أن «الباشا» كان مندوب الحزب مع قوى التحالف.
رغم أن «الباشا» في استقالته لم يتطرق إلى تقارب «البشير» و»المهدي»، إلا أن ما بين سطور البيان كان ظاهراً، وبيّن حالة الغضب التي بدأت في حزب الأمة وأعلنها «الباشا» مستقيلاً من عمله في الأمانة العامة.