بوصلة الإمام وحديده البارد والساخن
الإمام “الصادق المهدي” إمام الأنصار وزعيم حزب الأمة القومي، عرف في خطبه وحراكه السياسي ولقاءاته الصحفية والإعلامية بأنه فخور بشخصه ومرئياته وحزبه، وهذا ما لا يخفى على من تابع مسيرة السيد الإمام وحراكه السياسي، إذ عندما التحق بتجمع المعارضة السودانية في الخارج في آخر عام 1996م، كان شعاره (تهتدون) وعندما لم يجد هناك ما يغريه بالبقاء في الخارج وكان قد وقع مع الحكومة في عام 2000م، اتفاق (نداء الوطن) في جيبوتي، كان شعار عودته (تكسبون..!) ولكنه رغم تفاؤله لم يكسب غير انقسام الحزب وتشرذمه.. ولكنه كثيراً ما كان يلقي باللائمة على غيره.
في الأيام القليلة الماضية كرست صحيفة (أخبار اليوم) السودانية عدداً من الحلقات للقاء صحفي، استضافت فيه السيد الإمام وبعض رموز النخبة في استفصاح واستنطاق بشأن الحكم والمعارضة وبالضرورة حزب الأمة القومي.
فالسيد الإمام ورغم أن حزبه بقيادة السيدين “مبارك الفاضل” والدكتور “عمر نور الدائم” كان المبادر في (اتفاق شقزم) 1994م، والشريك في (قرارات أسمرا المصيرية) في 1995م، التي وقعت عليها كل أحزاب المعارضة يومئذ، كان قد وافق على حق (تقرير المصير) لشعب جنوب السودان قال لـ(أخبار اليوم) في الاستفصاح المعني.
{ الانفصال كان يمثل واقعاً عملياً لفشل المشروع الحضاري.
{ اتفاقية السلام كانت أول خطوة نحو الهزيمة.. فالاتفاق ثنائي بين طرفي نقيض في الطيف الفكري، وأبعد العناصر التي كان يمكنها أن تلعب دوراً وسيطاً.
{ وعندما أبرم الاتفاق كان بحاجة لملتقى السودانيين جميعاً لقراءة مشتركة إلا أن تلك الفرصة فاتت..!
وكيفما كان رأيه في المشروع الحضاري.. فإن الثنائية في التفاوض بين الحكومة والحركة الشعبية كان ترتيب ضرورة، وبدأ بأبوجا قبل نيفاشا – أي عندما كان “المهدي” وحزبه في الخارج، وكان حادث الغارة الصاروخية الأمريكية على مصنع الشفاء للدواء في (30) أغسطس 1998م، والذي كان تعليق “المهدي” عليه يومها (رب غارة نافعة..!!) وقد نشرته الصحف العربية في الخارج.
النظام عبر هذه المحطات كلها يقول الإمام – قد أخفق تماماً وصار استمراره خطراً على السودان..!
وعليه – يقول زعيم حزب الأمة وإمام الأنصار – نحن مؤمنون بأن يلتقي السودانيون على كلمة سواء، تحقق سلاماً شاملاً وعادلاً وخارطة طريق لا تستثنى أحداً.. ولكن النظام – هكذا قال – لن يقتنع إلا نتيجة ضغط تمارس فيه الاعتصامات والمواكب والاضطرابات – وعبر التجاوب الدولي.
لقد قمنا بهذه الخطوات – أي الاعتصامات والاضطرابات في ظروف مختلفة.. لكن في الظروف الماضية – قبل سنوات – كان الحديد (بارداً..!) واختلف الوضع الآن لأن الحديد صار (أحمر..!). وأفكارنا صارت تمثل البوصلة للحركات المعنية بذلك الأمر..!
إن إشارة “المهدي” إلى أن الحديد الآن صار (أحمر) ربما اعتمد فيها على ما جرى في سبتمبر – أيلول الماضي – من مظاهرات احتجاجية وتخريبية إلا أنها لم تؤت أكلها كما هو معلوم.. ورغم أن أفكار “المهدي” وحزبه كانت هي (البوصلة) كما قال.. فالمعارضة وعبر ربع قرن لم تتمكن من (تجريف النظام) وإن تعالى صوت من يتحدثون عن التغيير من داخل النظام وخارجه وهذه حقيقة.
المعارضة – يقول الإمام – تعيش على عيوب النظام.. والنظام يعيش على عجز المعارضة – وهذا أيضاً صحيح لأن المعارضة من حيث الهيكل والقيادة ضعيفة، بل من حيث البرامج والأطروحات البديلة، وهذا كله في بال وخاطر السيد الإمام الذي ظل يكرر ذلك دوماً، وهو قليل الثقة بأحزاب (التجمع المعارض) وزعاماته، يذكر أن هناك من يقول له ولحزبه، قولوا للناس أخرجوا للشارع.. إلا أنهم لا يفعلون لأسباب في جملتها أنهم يريدون لذلك أن يتم بالاتفاق السياسي حول المستقبل.. فهم (قوم مسؤولون)
هكذا يقول السيد الإمام عن حزبه وجمهوره.. وهذه نقطة لا يخالفه عليها عاقل لأن السودانيين ومنذ الاتفاق على قرار الاستقلال في ديسمبر 1956م، لم يكن لديهم اتفاق على النظام البديل أو السلام والاستقرار لأي نظام حكم خلفه نظام، فقسمة السلطة هي الهم الأكبر، وعليه في ظل الظروف الراهنة والخلاف بين أحزاب المعارضة المختلفة، لا نتصور أن يكون هناك اتفاق على كلمة سواء وخارطة طريق لا تستثنى أحداً.. وذلك ما لم يحدث أيضاً بعد انتفاضة رجب أبريل 1985م، لاسيما إذا ما كانت أفكار “المهدي” وحزبه.. كما قال – هي البوصلة والهادي في الظرف الحالي الذي صار فيه الحديد (أحمر) وليس بارداً كما كان الحال قبل ذلك.
“المهدي” اليوم وقبل الغد على خلاف كبير مع قوى الإجماع الوطني التي يقول إنها بحاجة إلى إعادة هيكلة، ليحتل حزبه وهو الأكبر مكانه من القيادة والزعامة فيها، بل عندما قال له الدكتور “شدو” إن الحزب الاتحادي هو الحزب الرصيف والند لحزبكم وشريكه في السابق، لم يعجبه ذلك المنطق فقال له المساواة بين الاثنين هنا في غير محلها، ذلك أن لحزب الأمة القومي قواعده ومؤتمراته ومؤسساته والآخر مازال بعيداً عن ذلك، وهو الذي لم يعقد مؤتمراً منذ سنوات طويلة. وقد يكون هذا صحيحاً ولكن النزعة العلوية التي يخاطب بها زعيم حزب الأمة غيره، تجعل الاتفاق على كلمة سواء وخارطة طريق لا تستثنى أحداً بعيدة إلى حد كبير.
وهذا بتقديرنا يجعل الحديد (البارد) وليس (الأحمر) هو الذي سيكون الغالب، ومن هنا فإن بوصلة حزب الأمة القومي التي تعتمد على الاعتصامات والاضطرابات وكل مكونات الجهاد المدني، لن تحقق اعتراضها في الخروج إلى الشارع وإقصاء النظام بمشروعه الحضاري الذي فشل والذي صار استمراره خطراً على السودان.. كما قال السيد الإمام وكرر على محاوريه في (أخبار اليوم).
الاعتصامات والاضطرابات وسائر معينات الجهاد المدني التي حدثنا عنها السيد الإمام منذ سنوات طويلة، لا سبيل إليها في الظرف الراهن، وإن حركت قرارات رفع الدعم الاقتصادية الأخيرة (الحديد) وجعلته ساخناً بعض الشيء. فهذا النوع من النشاط لا يتحقق بأن يقول حزب الأمة أو غيره للناس أخرجوا لأن أدوات الخروج والحراك إذا ما استثنينا جمهور (مسجد الهجرة) ورواده بودنوباوي، ليست متاحة للحزب الذي بطبعه وتاريخه لم يكن حزب نخبة أو نقابات حيث تجدي الاعتصامات والاضطرابات..
وإن كانت دار الحزب بأم درمان وأسبوعيات الحزب السياسية والصحفية، قد أصبحت في غياب ذلك لدى الأحزاب المعارضة الأخرى محركاً أو (بوصلة) للآخرين.
لقد ظل حزب الأمة القومي وكيانه الأنصار يلعبان دوماً على ورقة الانتخابات. فثورة أكتوبر 1964م، وكانت القوى الفاعلة في تحقيقها طلابية ونقابية أي نخبوية وإلى حد ما عسكرية، لم يكن لحزب الأمة فيها غير بروز السيد “الصادق المهدي” وقبله والده “الصديق عبد الرحمن المهدي”.. وإن لم تنج بعض زعامات الحزب من الاعتقالات كالسيد “محمد أحمد محجوب”.
وكذلك انتفاضة رجب – أبريل 1985م، التي ابتدرها طلاب جامعة أم درمان الإسلامية ونقابة أطباء السودان بقيادة الدكتور “الجزولي دفع الله”، وكذلك كان للقوات المسلحة بقيادة الفريق “عبد الرحمن سوار الذهب” دورها الذي لعبته في نجاح الانتفاضة.
من ثم وفي ضوء تراكم هذه الخبرات فإنه يتوجب على حزب الأمة القومي وقد قال زعيمه إن نظام الحكم الحالي (استمراره خطر على السودان ويجب أن يرحل..!)، يتوجب عليه أن يتطلع أكثر لتحقيق ذلك أو جزء كبير منه على الانتخابات القومية القادمة في مفتتح عام 2015م، أي بعد عام وأكثر من الآن لأن ذلك من ناحية:
{ هو الجهاد المدني في أفضل أساليبه وهو صندوق الانتخابات – كما يقولون.
{ وبه يخرج السيد الإمام وغيره من (بوصلة) الحديد البارد والحديد الساخن التي لا تعرف لها نهاية.
وفضلاً عن ذلك فإن أسطورة (المعارضة تعيش على عيوب النظام.. والحكومة تعيش على عجز المعارضة..!)، ستنتهي جملة واحدة ويرتاح منها الشعب السوداني الذي يفضل أن يعيش الطرفان (الحكومة والمعارضة) على صندوق الانتخابات وليس (عيوب هذا.. وعجز ذاك..!). وهي عملية طويلة استمرت لربع قرن من الزمان تقريباً تبدل فيها حديد السيد زعيم حزب الأمة – الإمام “الصادق المهدي” بين (بارد) و(ساخن) إذ ربما استمر الحال هكذا.. ذلك أن في الأمر – شأن العلاقة بين القطبين الكبيرين في المجتمع الدولي – عمليتا (توازن) و(ردع متبادل)..! فللنظام الحاكم دوماً وسائله في تحويل الحديد من ساخن إلى بارد.. وهكذا.
إن المطلوب فقط والذي يتعين التركيز عليه أكثر من غيره هو ضمان سلامة العملية الانتخابية المزمعة، وإجراؤها في حينها وبكل الوسائل الممكنة والمطلوبة في مثل هذه الأحوال.. وعلى السيد الإمام “الصادق” هنا أن يعدل في (بوصلته) لتصبح معبرة عن واقع جديد هو الاستعداد للانتخابات بكل ما هو مطلوب، ولتكن الكلمة التي يلتقي عليها السودانيون كلهم هي (الانتخابات) التي تحقق سلاماً شاملاً وخريطة طريق لا تستثنى أحداً – نظاماً حاكماً أو أحزاباً معارضة – والله يهدي السبيل.