حكومة تكنوقراط قومية..!!
> أفرد مساحة العمود كاملة لرسالة وصلتني من الأستاذ “سيد الحاج مكي” الناشط السياسي والمهتم بالشأن الوطني، التي تحمل رداً على ما كتبناه بعنوان (الصراحة المتناهية للدكتور)، الذي عرضنا من خلاله لأفكار الدكتور “عثمان أبو القاسم” التي طرحها من خلال برنامج (بمنتهى الصراحة) بفضائية الخرطوم:
} الآن وقد استحكمت التناقضات بين المؤتمر الوطني والمعارضة أضاعوا بها حق هذا الشعب العظيم الصابر بالكيد الأحمق، الوطني يرفع شعار الوفاق كلما حزمتهم المصائب، والمعارضة تشيع الريب وتؤطر الظنون وتحالف الشيطان كي تفشل الحكومة ما لم يكن لها فيها موضع رئاسة أو مرجع فائدة.
ومع هذه الانشقاقات والتفلتات الأمنية زادت محنة المواطن في القرى والمدن، وصار مواطن القرية لا يسمع من أخيه غير الحديث القابض للنفس وإلحاح الدين في الطلب، وما تدخله هذه الحال على النفس الجاهلة من وساوس الإطماع وجرائم النهب المسلح. لا يكاد القروي يخرج من كده ودأبه المتواصل لأكثر من القوت الضروري إن وجد، وفي المدن فإن لسان حال المواطن يقول:
ولي راتب كالماء تحويه راحتي فيفلت من بين الأصابع هاربا
وإذا استأذن الشهر فلم أجد إلى جانبي إلا غريماً مطالبا
فأمسيت أرجو نعيه يوم وضعه وليس الذي يمضي من العمر آيبا
أضف إلى ذلك قرارات الحكومة الاقتصادية الأخيرة التي أقدمت عليها مكرهة وتقبلها المواطن بصبر حتى جزع الصبر، في هذا الجو المكهرب تجد العوائل مرعوبة داخل حجراتها.
{ “الأزهري” ورفاقه:
وإذا ما قلبت صفحات ماضينا التليد يقابلك الزعيم “الأزهري”- طيب الله ثراه- تراه بجهاده الباسل علماً يخفق بالأمل ومنارة تشع بالهداية ورمزاً للاستقلال، وتجد خلفه رجالاً أعفة يتواصون بالصبر ويتعاونون على البر، ما كان بينهم حاقد ولا شامت ولا منتقم، كانت الحياة في عهدهم وادعة والنفوس قانعة والجوارح عفيفة والجوانح سليمة، كانوا بقلوبهم الكبيرة يهبون لتسوية خلافاتهم دونما تدخل أجنبي. اليوم تناصرت أبالسة الظلم والظلام على هذا الوطن تتحلب أفواههم قرماً لتمزيقه وبلعه.
{ وهذه الضجة الكبرى علام؟
وحتى تنفض هذه الزوبعة الآنية ويفرنقع المتربصون بالبلاد أرى أنه قد آن الأوان لأن يتخذ السيد رئيس الجمهورية قراراً تاريخياً شجاعاً لمصلحة الوطن أولاً- وهذا هو ديدنه- فقد جاهد وناضل واحترق، ونعترف بأن إيجابيات الحكومة كانت عديدة وكبيرة، فقد تدفق البترول في عهدهم ليقر وجودنا في الدول معلناً انعتاقنا من رق الاحتلال الاقتصادي، ورفعت الإنقاذ رايات السلام فانحسر الطوفان الدموي (هذا على سبيل المثال فالمجال لا يتسع). وكانت هناك سلبيات ولا أعتقد أن انفصال الجنوب كان واحداً منها، فالأحسن للدولتين وفاق وجوار آمن.
{ إطفاء هذه الحرائق
لإطفاء هذه الحرائق أرى أنه قد أصبح بالضرورة أن يشكل رئيس الجمهورية حكومة تكنوقراط قومية انتقالية من البروفيسورات وحملة التخصصات العالية، تؤلف من قدرة الشباب وخبرة الكهول دستور العمل المنتج لإنقاذ البلاد وإسعاد المواطن السوداني الكادح كي يرف الأمن ويتذوق أهل القرى عافية البدن وبها يسكن جوف الفقير ويذهب خوف الغنى، على أن تكون هذه الحكومة مناصفة بين الاتحادي والأمة ومايو والإنقاذ، على أن يتم تأليف هذه الحكومة من علماء أول حزبين حكما البلاد وكانا على رأس ثورة خلعت الاستعمار من أساسه، رجالاً ذادوا عن حياض الوطن وكانوا رمزاً للاستقلال (حزبا الأمة والاتحادي) بالاشتراك مع آخر حكومتين حكمتا البلاد، هما ثورتا مايو والإنقاذ- تمثلان الماضي والحاضر- أي قدرة الشباب وخبرة الكهول بالتساوي لكي لا تتكرر أعذار الحزب المهزوم وشماعة (الانتخابات مزورة والحديث عنها ممجوج)، وسيقع هذا القرار برداً وسلاماً على أحزاب الاستقلال العريقة، ذلك لأن أربعين عاماً بعداً عن الحكم تحرمهم من انحياز سبعين بالمائة من أصوات الشباب المكفول لهم حق التصويت في الانتخابات، ومع هذه المسافة يتضاءل أملهم في المنافسة في الحكم الشيء الذي جعلهم يتحالفون مع الأحزاب الهامشية التي لا وزن لها جماهيرياً رغم أنهم يحملون أفكاراً وتوجهات علمانية تتناقض مع مبادئ الصحوة والجمهورية الإسلامية، يقدمون لي ذلك وبداخلهم وطنية غيورة وحب لهذا الوطن يفدونه بأرواحهم خوفاً من صوملته ومصرنته ولبينته، ولكنها شهوة الحكم والشعور بالذنب تجاه الأسر العريقة التي بوأتهم مناصب الرئاسة، وهم الآن على أبواب اعتزال السياسة بعد تقدم العمر وعقدة التقصير تجاه الأبناء تلاحقهم إذا لم يورثوهم غير (قول الفتى: كان أبي).
المؤتمر الوطني: لا عيب فيهم، كافحوا وناضلوا وأنجزوا لكنهم (يا جنابو طولوا) وعليه تكفيهم قسمة متوازنة متساوية مع الاتحادي والأمة ومايو.
ومايو لماذا؟.. أولاً- القانون والدستور يعطي أي مواطن استوفى الشروط القانونية الحق في تأسيس أي حزب.
ثانيا- مايو هي الأقرب للذاكرة من أحزاب الأمة والاتحادي، وذكراها ما زالت حية في قلوب الشباب يتغنون بأمجادها وأناشيدها (يا فارسنا ويا حارسنا) وأطفال ود نوباوي يؤلفون الحكايات للعب ويطلقون على اسم البطل “نميري”.. وكان نميري بحق بطلاً تجلت في خلائقه المزايا السودانية الرفيعة، كان شجاعاً حاسماً يظهر في المناسبات من غير كبرياء ويقتحم الطرقات من غير حرس عف اليد واللسان والضمير.
ثالثاً- نتحدث اليوم عن حكومة (تكنوقراط) وعهد “نميري” كان أغنى العهود بالعلماء والمؤهلات احتضنهم دونما تمييز لا عنصرية ولا قبلية ولا جهوية ولا حزبية نذكر منهم على سبيل المثال: د. “محيي الدين صابر”، “بابكر عوض الله”، “جعفر بخيت”، “عثمان أبو القاسم”، “عبد الله محمد أحمد”، “عبد السلام صالح”، “موريس سدرة”، “مأمون سنادة”، “محمد التوم التجاني”، “محمد هاشم عوض”، “عثمان أبو ساق” وغيرهم.
رابعاً- عندما عصفت برأسه نخوة الدين أباد كل الخمور دونما تردد، وأعلن الشريعة دونما خوف أو وجل.
خامساً- كان البترول لحناً أول من شدا به كان الرئيس “نميري”.
هذا، وبالأمس التقينا بالأستاذ “خالد ساتي” عبر برنامجه في فضائية (الخرطوم) وبصوته النقي العذب وجرسه العربي الواضح وأدائه المتئد ومداعبته البلدية التي ينثرها عمداً بين مزدوجتيه بالأمثال والحكم وبمنطقه السليم، قدم لنا البروفيسور الدكتور “عثمان أبو القاسم” (مايو2) وكانت الصراحة وكان الوضوح والتفاني والشموخ. ففي اللحظة التي اضطرب فيها البحر وبعد المرفأ وبدأت الأحزاب في التشظي (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) في الوقت الذي اختفى فيه الأقطاب عن الربان، راعه- أي دكتور “عثمان”- حال البلاد، فنهض نهوض المصلح المؤمن الواثق بعزمة لا تسعها قدرة وفكرة، ولا يحصرها أفق، وطموح لا تحده نهاية موجهاً شباب مايو للنهوض والتكاتف لنصرة الوطن يوم أن خذله الآخرون.. الذين يعرفون دكتور “عثمان” عن قرب يجدونه زاهداً في أبهة، تميز بصراحة المنطق وجرأة القلب، يسأم الركوض ويبتغي العمل الدءوب، تجده كالطود الأصم لا تلين له قناة ولا تضعف له شكيمة.. ودكتور “عثمان أبو القاسم” كنز مسكون بالزراعة والتعاون والتنمية. الآن الأمل معقود أن تعود مساهمة مايو في الوضع الجديد لوحدة الصف وانتظام العقد ووضع دستور السودان الدائم.
أما دكتور “غازي صلاح الدين” فقد كان ذا أفق واسع وبصر نفاذ ولب حصيف، كان شجاعاً أبياً متفرداً، وكان الثنائي الدكتور “غازي” و”أمين حسن عمر” الحس المدرك والروح الملهمة والبصيرة الحازمة والعقل المنظم في المؤتمر الوطني.. هذه الصفات إضافة لإنجازاته ونجاحاته جلبت للدكتور “غازي” (الململة) وقديماً قال الشاعر:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخُ الجهالة في الشقاوة ينعم
وقد عزل سيدنا “عمر بن الخطاب” القائد المظفر “خالد بن الوليد” لانتصاره في جميع غزواته.
هذا وسيشكل د. “غازي” ومجموعته أقوى وأطهر معارضة، وسيكون هو رهبة الوزراء ودهشة النواب.. وفي ذلك خير كثير.
بقلم/ سيد الحاج مكي