المصائب لا تأتي فرادى..!!
يوم انهار المعسكر الشرقي بانهيار قطبه الاتحاد السوفيتي العظيم في أول عقد التسعين من القرن الماضي، وجمهورية الصين في بداية وثبتها، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تعرف بالقطب الأوحد وسيد العالم.. وفي ضوء ذلك (الوهم) – إن جاز التعبير – كُتب الكثير وقيل الكثير عن بسط الولايات المتحدة وحلفائها سيطرتهم وسلطاتهم على الآخرين، وقد كان لذلك أثره على الإدارات الأمريكية المختلفة، يومئذٍ جمهورية كانت أو ديمقراطية.
إلا أن أحد المفكرين المصريين، وكان له حضوره في مجال التعبير بالقلم واللسان وهو الدكتور “توفيق الشاوي”، كان له رأي آخر باح به لي عندئذٍ هنا في الخرطوم – وقد جاء من محاضرة له في الجزائر – قائلاً: يا فلان، الحضارة المادية (اشتراكية أو رأسمالية) أصلها واحد، فإذا سقطت الاشتراكية – وقد حدث – فإن سقوطها مؤشر لسقوط الرأسمالية وإن طال الزمان..!
الدكتور “توفيق الشاوي” رحل عن دنيانا منذ سنوات، غير أن كلماته ظلت باقية، واليوم نشهد ونرى ترنح القطب الأوحد سياسياً واقتصادياً ودبلوماسياً، فالمصائب، وهي لا تأتي فرادى، يأخذ بعضها في غرب الأطلنطي بخطى بعض، وذلك كله ليس بغائب عن المراقب والمتابع للشأن الإقليمي والدولي، بل بلغ الضنك والإرهاق والأنين به أطراف الدنيا، والشواهد أكثر من أن تحصى.
قبل أعوام قليلة (2008) تقريباً، كانت الأزمة المالية العالمية التي كان للولايات المتحدة الأمريكية منها نصيبها الذي ما زالت آثاره باقية، بحيث صارت تناشد مجلس الشيوخ السماح لها بتجاوز ما هو معلوم من موازنة وتسهيلات بنكية، لتصبح قادرة على القيام بما يلزم من متطلبات والتزامات من حقوق العاملين، وطلبات التسيير والأغراض الأخرى التي لها ما يوجب سدادها والقيام بها.
وقد يقول البعض هنا (على نفسها جنت براقش).. فإدارة الرئيس “بوش” (الابن) وإدارة الرئيس الحالي “باراك أوباما” لعبتا كثيراً بالأموال والمدخرات والسمعة الطيبة على سياسة (حرب الإرهاب) التي لا حدود لها أو سقف مادي أو أدبي، وهي التي بدأت بالحرب في أفغانستان وإزالة نظام الرئيس العراقي “صدام”، ثم قصف من يدعون بالإرهابيين بطائرات بدون طيار على الحدود الباكستانية ومطاردة “أسامة بن لادن” وأعوانه، وصولاً إلى اغتياله مؤخراً، مما وتر العلاقة وأزمها بين البلدين.
ولم تكن لذلك كلفته المالية فحسب، وإنما في الأرواح والمعدات والسمعة الأخلاقية للجيش الأمريكي، ومن شاركوه المهمة من الحلفاء الأوروبيين وغيرهم.. إذ ظللنا نسمع عن (تمردات) فردية وردات فعل سلبية من بعض من شاركوا في تلك الحروب والمهمات من الجنود والفنيين الأمريكان، الذين عبروا عن ضيقهم بذلك بالسلاح وأشياء أخرى مختلفة كالكشف عن المستور إعلامياً.
هذه كلها مصائب عبر عن بعضها وندم من شاركوا فيها من الحلفاء، فقد أصبحت للمسؤولين البريطانيين والفرنسيين والألمان آراؤهم ومرئياتهم الرافضة، التي تأسى لما حدث، مما جعل انسحاب قواتهم المشاركة للأمريكيين في معاركهم برنامجاً معلناً وصريحاً، وقد زاد ذلك من الرفض داخلياً لتلك الحروب والسياسات التي كان منها معتقل (غوانتنامو) الذي أخلى قبل أيام تقريباً.
والحرب ضد الإرهاب ليست وحدها التي انعكست سلباً على السياسة والأداء الأمريكي المالي والأدبي والاقتصادي، وإنما الدبلوماسية وآليتي الجزرة والعصا اللتين كانت تلعب بهما الإدارة الأمريكية في المجتمع الدولي والإقليمي، وهما على وجه التحديد والدقة:
– الأمم المتحدة ومؤسساتها التابعة.
– والمحكمة الجنائية الدولية – لاهاي.
– والأزمة السورية التي تأتي في المقدمة.
فلتكن نقطة البداية هنا هي الأزمة السورية التي ظهر فيها الاتحاد الروسي كلاعب دولي كبير، عطل دور ما كان ينظر إليه (كقطب أوحد) بعد انهيار المعسكر الشرقي في أول تسعينيات القرن الماضي، فالأزمة السورية ورغم ما يكتنفها وتعبر عنه من مآسٍ وكوارث، ما زالت تراوح مكانها بسبب التعنت الروسي، إذ لروسيا مصالحها وارتباطاتها بالأسد ونظامه.
وهذا يعني للمراقب السياسي أن الاتحاد الروسي ورغم عدم تمتعه بقوى ما يعرف بالمعسكر الشرقي سابقاً، الذي انضم بعضه للاتحاد الأوروبي ودوله كألمانيا، قد عاد إلى الواجهة مرة أخرى ليمارس دوره خصماً على القطب الأمريكي وفي الشأن السوري، كما بدا واضحاً الآن.
وعوداً إلى النقطتين الأولتين – الأمم المتحدة ومؤسساتها والمحكمة الجنائية الدولية اللتين فيهما للولايات المتحدة الأمريكية حظوظها أكثر من غيرها – فبالنسبة للأولى (الأمم المتحدة) وهي الدولة المضيفة لها منذ ميلادها ولها عليها ما لها، أخذت مؤخراً تفقد بريقها ويؤخذ عليها الكثير ومن أقرب الأقربين للقطب الأمريكي.
السيد رئيس الدبلوماسية السعودي – الأمير “سعود الفيصل” – كما حدث وصار معروفاً للعالم، رفض مخاطبة الجمعية العامة (68) للأمم المتحدة بدعوى أن مخاطبتها وإلقاء الشكوى والتظلمات فيها لا معنى له، حيث أنها لا تبدي ولا تعيد في ظل سيطرة الكبار عليها، وإلا فأين قضية تاريخية كالقضية الفلسطينية، وأين ما جرى في سوريا الآن وقد ضاع بين رجلي ومصالح وتناقضات الكبار.
وأكثر من هذا فإن المملكة العربية السعودية عندما مُنحت مقعداً غير دائم ومن بين الخمسة عشرة عضواً، رفضت المقعد تعبيراً عن سوء الظن إياه بالمنظمة الدولية ومؤسساتها، وهي كما قلنا من الأصدقاء المقربين للقطب الأمريكي الذي له لديها الكثير من المصالح الاقتصادية والإستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط.. فالمملكة هي قطب وراعي مجموعة (5+1) الخليجية، وغير ذلك. فأن تسيء الظن بالمؤسسة الأممية التي يرعاها القطب الأمريكي فإن ذلك يغري الآخرين بالشيء ذاته، وهذا خصم على القطب الأمريكي لا ريب، الذي باتت تهب عليه الرياح من كل جانب..!
ولعل المؤتمر والاجتماع الاستثنائي الأخير للدول الأفريقية في أديس أبابا، وقد كان موضوعه عدم الرضا والشكوك والظنون بالمحكمة الجنائية وعدم حياديتها ونزاهتها تجاه الأفارقة أكثر من غيرهم، قد كان ضربة أخرى على القطب الأمريكي الذي كان يلعب بالمحكمة كعصا يرهب بها ويخضع الآخرين، رغم أنه قد أمن نفسه من إجراءاتها بعدم عضويته وانتسابه إليها، وباتفاقياته الثنائية مع من وقعوا على ميثاق روما ليأمن جنوده ورعاياه شرها.
والشاهد في ذلك – أي استغلال المحكمة كعصا لإرهاب الآخرين وإشانة سمعتهم – من الرؤساء الأفارقة الرئيس السوداني “عمر البشير”، الذي عملت الولايات المتحدة عبر (البند السابع) في مجلس الأمن إلى توصيل الادعاءات والاتهامات ضده إلى المحكمة الجنائية الدولية ومدعيها العام – يومئذٍ – الموصول نسباً ورعاية بالقطب الأمريكي وهو السيد “أوكامبو”..!
المصائب على كل حال، وكما قلنا، (لا تأتي فرادى)، وإنما تنهال وتتراكم على القطب الأمريكي لتصل إليه الاتهامات والشكاوي بالتجسس والتنصت من الحلفاء الأوروبيين – كما تناقلت ذلك الأنباء – ووصل الأمر إلى أن تقوم مجموعات برلمانية ومسؤولة أوروبية بالوصول إلى الكونغرس والأجهزة الأمريكية لتبلغها بالشكاوي، وتبحث معها ملف عدم الثقة الذي وصل إلى التجسس على الرؤساء وكبار المسؤولين الأوروبيين.. قد رصد ذلك كله، ولم يعد مجرد اتهامات أو تنصل عن التزامات التحالف التي (جرجرت) الدول الأوروبية إلى ما لم تحمد عقباه، كالحرب في أفغانستان والحرب في العراق ….إلخ.
وأمر آخر ربما اعتبر مصيبة أخرى للولايات المتحدة الأمريكية التي تشن الحرب على الإسلام عبر ما تدعوه الحرب على الإرهاب.. فقد أعلنت بريطانيا الأسبوع الماضي خبراً مفاده أنها تفتح الباب على مصراعيه لتداول السندات والصكوك الإسلامية بدءاً من العام 2014، ذلك أن المعاملات المصرفية والمالية الإسلامية هي الأسلم والأكثر جذباً للاستثمارات.
ومما يجدر ذكره في هذا السياق أيضاً مجلة التمويل العالمي Global Finance وهي أمريكية وتصدر في واشنطن وتنتشر عالمياً، قد كرست جائزتها السادسة للمؤسسات المالية الأفضل في العالم.. وقد فاز بها في السودان بنك فيصل الإسلامي بحسبانه الأول في السودان، مما انتهى به إلى التكريم في (12) أكتوبر الماضي 2013 في الاتحاد الوطني للصحافة بالعاصمة الأمريكية واشنطن، فقد ساهم البنك مع آخرين كما قال ناشر المجلة في بسط التمويل الإسلامي ونشره.
إن التمويل الإسلامي والمعاملات المالية الإسلامية وليس الإرهاب هما اللذان يمثلان الإسلام، وينشرانه في العالم مع غيرهما من القيم التي عرف بها الإسلام، فالحملة الإعلامية التي سادت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر – أيلول 2001 هي الآن في طريقها إلى التراجع، لأن الصورة كما نرى ونسمع قد تغيرت، وهذه أيضاً ضربة للسياسات والادعاءات الأمريكية.. فالمصائب لا تأتي فرادى.. وإنما متتابعة ومترادفة يدفع بعضها بعضاً.. وهذا يعني في النهاية أن القطب الأمريكي آخذ في الترنح وعدم القدرة على قيادة العالم وفرض سيطرته عليه.. فلكل أجل كتاب، وصدق المفكر المصري الراحل “توفيق الشاوي” في ما قال قبل ربع قرن من الزمان، وهو أن سقوط الماركسية مقدمة لسقوط الرأسمالية، فالحضارة المادية جذورها واحدة.