دفء القبيلة..!!
ازداد “مختار” طولاً وشمخ رأسه عالياً بإعلان السيد ناظر المدرسة أن “الخير” ولده قد أحرز نتيجة باهرة وأنه الأول ليس على مدرسته فحسب بل على المديرية بحالها.. هز “مختار” عكازه الذي لا يفارقه بفخر شديد حتى بانت على (ضراعه) الأيمن سكينه بجرابها الجلدي الأسود ومقبضها الفضي.. هذه السكين ورثها عن جده لأمه.. بسرعة البرق انتشر نبأ تفوق “الخير”، وفي وقت قياسي تجمعت الفرقان القريبة، وعندما رجع “مختار” وابنه “الخير” استقبلتهما زغاريد النساء من على البعد أما أواني مشروب الكركديه، فقد رُصت تماماً كما ترص في شهر رمضان المعظم ووزع البلح كما وزعت العجوة لكبار السن وارتدت شقيقات “الخير” الخمس ثيابهن الرائعة و(نقضت) “سعيدة” أمه (مسائرها) الطويلة الناعمة وأعادت تضفيرها من جديد ولكن هذه المرة (نضمت) على طرف كل مسيرة (ودعات) ثلاث متوسطة الحجم شديدة البياض لزوم الرقص و(الشبال)، فقد نذرت إن نجح “الخير” أن ترقص و(تدي الخير الشبال)، وعجت أركان الدار الرحبة بالحركة.. “سعيدة” وسط كريماتها يجهزن للضيافة، وشيخ “بابكر” والد “مختار” مع القصاب وتجهيز الذبائح، وها هو الشيخ (يتحزم) ويربط جلبابه الأبيض في وسطه ويساعد في تجهيز الكرامة.. تماماً كما فعل في يوم سماية “الخير”.. ثم جلس الشيخ على حجر يتابع وعقله يعمل على زحزحة ثمانية عشر عاماً ليستبين ذلك اليوم البعيد، ففي ساعات الفجر الأولى وضعت “سعيدة”– زوجة ابنه– وضعت “الخير” بعد ميلاد خمس بنات بعد أن راهن الكثيرون أن المولود القادم بنت سادسة.. لذلك فقد جاء ميلاد “الخير” بنكهة مغايرة.. انطلقت في ذلك الفجر الأعيرة النارية مثلما جلجلت زغاريد الفرح، الأمر الذي أيقظ الحي بأكمله وتناقل الخبر: (سعيدة اتحلت وجابت ولد.. سعيدة جابت ولد).. ولأن الجميع كانوا في انتظار (حللها) فقد جاءت الاستجابة صادقة ومخلصة فـ”سعيدة” امرأة محبوبة من الجميع فهي سحابة من الحنان رغم قوة شخصيتها التي لا تخطئها العين.. إنها ذات ملكة فطرية لحب الآخرين تعرف كيف تعامل جاراتها وأهلها.. تساعد الجميع.. ساعدتها في ذلك حالة زوجها وسعة رزقه ومن قبله والده الذي اختارها زوجة لابنه.. ولهذا الاختيار قصه فقد حدث أن دخلت بهائم شيخ “بابكر” (حواشة) والدة “سعيدة” وخربت الزرع تماماً فبكت والدتها “زهرة” تعبها ومجهودها، أما هي فقد تناولت (طوريتها) ورمت بها ما صادفها من البهائم فأصابت شاة إصابة قاتلة ونسيت أمها أمر (الحواشة) وزجرت ابنتها التي أسرعت إلى جارهم تسأله ذبح الشاه قبل أن تموت (فطيس) وأسرع البعض إلى الشيخ “بابكر” ينقلون الخبر، وبتهور شديد قصد “مختار” ابن الشيخ “بابكر” حواشة “سعيدة” ووالدتها.. حقيقة فقد خربت البهائم أكثر الزرع وما زال بعضها يسرح ويمرح داخل (الحواشة) ورغم ذلك فقد صفع “مختار” “سعيدة”، بينما وقفت أمها تحاول الدفاع عنها وعلى مقربة ترقد الشاه المذبوحة التي كان “مختار” يوزع بصره بينها وبين “سعيدة” التي اختفت وسرعان ما عادت بعصا غليظة ضربت بها رأس “مختار” من الخلف فشجته، فصرخت والدتها، وترنح “مختار” ثم تحامل على نفسه حيت أجلسته “زهرة” أمها وبدأت تحاول إيقاف النزيف ولكن.. انفلت الأمر وامتلأت (الحواشة) بالناس بين مؤيد ومعارض لما حدث حتى وصل شيخ “بابكر” و(حكيمباشي الشفخانة) الذي فحص جرح “مختار” وكان سطحياً فضمده.. تحركت “سعيدة” وقصدت “مختار” وفي صدق وثبات قالت: (إنت ظالم وحقار بهايمك خرّبت حواشة بي حالها ما شفتها لكن عينك وقعت في فرد بهيمة مضبوحة) ثم غادرت المكان بسرعة، وهنا ولأول مره تدمع عيناها.. بكت طويلاً لم تبك من الصفعة فقد أخذت حقها، يكفي أنها جعلته يترنح، ولكنها بكت اليُتم.. بكت والدها، فبموته تبدل الحال وفقدت وأمها الأمن والأمان وها هما وحيدتان تصارعان الحياة.. غادر الجميع )الحواشة).. قال شيخ “بابكر”: (بتك اتلومت يا زهرة).. هزت رأسها مؤيدة وتابع بعد أن مسح (الحواشة) ببصره: (صحي البهم خربت زراعتكن لكن إن شاء الله أعوضكن) ثم نظر للشاة المذبوحة قائلاً: (حلال عليكن) وقاد ابنه وخرج.. نادت “زهرة” على ابنتها قائلة: (دا شنو دا العملتيهو يا شقية؟؟) لم تغضب “سعيدة” من حديث والدتها فإنها طيبة ولكن للطيبة حدود وسألت مشيرة للشاة: (ليه ما شالوها؟) فردت أمها: (شيخ بابكر قال حلال علينا) نظرت “سعيدة” إلى والدتها بحنق قائلة: (شيخ بابكر جا يتصدق علينا، وزراعتنا وتعبنا وشقانا كل الشهور الفاتت خلاص ضاع وانتهى) فردت عليها أمها: (أحمدي الله إنو جرح ولدو بقى صغير).. ردت “سعيدة” بصدق: (أيوه.. الحمد لله) وصمتت كمن ندم على فعلة نكراء.. جهزت زهرة الشاة وطبختها وطلبت من “سعيدة” أن تساعدها على حملها وذهبتا إلى دار شيخ “بابكر” التي كانت مكتظة بالمعاودين همست “سعيدة” لأمها: (إحنا زووول ما جانا يقول لينا الله يعوضكم تعبكم الراح وكلهم جايين هنا ومالين بيت شيخ بابكر) فقالت أمها: (آآي يا سعيدة شايفاهم).. اغتاظت “سعيدة” وندمت على صحبة والدتها ومما زاد الطين بلة ملاقاة والدة “مختار” العدوانية التي هزت “سعيدة” بغضب قائلة: (كنتي دايرة تكتلي لي ولدي) إلا أن “زهرة” كعادتها حاولت تلطيف الجو وقبل أن تخرج وابنتها طلبت أن ترى “مختار”، فحقيقة قد خافت على وحيدتها فلو كان زوجها على قيد الحياة لهان الأمر أما الآن…!!
نعود للاحتفال بـ”الخير” الذي سافر إلى العاصمة للدراسة بجامعتها العريقة (جامعة الخرطوم).. زودته أمه بعشرات النصائح وقد كان “الخير” عند حُسن ظنها.. مرت سنوات الدراسة وتخرّج “الخير” طبيباً لتمتد غيبته عاماً وثانياً وخامساً تزوج خلالها واستقر في مقر عمله.. وهكذا تبخر الأمل تدريجياً في عودته، حزّ ذلك في نفس أهله خاصة أمه ولكنهم كانوا يذهبون لزيارته من آن لأخر فتلاقيهم زوجته بجفاء لا يخفى.. “سعيدة” اكتفت بزيارة واحدة لوحيدها وحتى عندما أنجبت زوجته “عايدة” فقد أرسلت “سعيدة” رسالة يتيمة لولدها فقد انتبهت للحقيقة المرة فـ”الخير” قد اكتفى بعمله وزوجته وأبنائه، لكنها أسرت لـ”مختار” زوجها: (إن شاء الله يا مختار أحفادي حيعوضوني) ولأن شقيقات “الخير” الخمس سمين أحد أبنائهن تيمناً بشقيقهن فقد شب خمسة من الأحفاد يحملون اسم “الخير”.. وكأن الأيام أرادت أن تعوض “سعيدة” فقد كانوا نجباء، ولكن هل المعرفة والتحصيل سيبعدهم عنها؟؟ لذا كانت كل أم تذكر أبناءها بخالهم الذي خرج بغير رجعة، وكان هذا ترياقاً كافياً لهؤلاء الشباب، فجميعهم عادوا يحملون النجاح.. وبنفس القدر نجح أبناء “الخير” (خالهم) الذي نذر حياته لأسرته الصغيرة وعمله، و”عايدة” كانت مصرة على الابتعاد ليس من أسرة زوجها فحسب بل حتى من أسرتها هي شخصياً، فقد كان أهلها رقيقي الحال وهذا بلا شك سيكون على حساب أسرتها الصغيرة.. لاحظ “الخير” ذلك وكان يحاول تنبيه زوجته مرة وعاشرة، ولكن المرأة كانت تسير وفق خطة محددة ولا تريد أن تحيد عنها أبداً ظناً منها أنها بذلك ستحمي أولادها وزوجها وماله.. وبلا سابق إنذار انتقل “الخير” إلى المستشفى، ولكن هذه المرة دخلها مريضاً وليس طبيباً، وجاءت الفحوصات بأن كليتاه متعبتان ولابد من التصرف سريعاً.. تلفتت “عايدة” فلم تجد حولها أحداً.. اتصلت بأشقائها فاعتذر الجميع وأعلنوا أن كل ما يستطيعونه هو أن يأتوا بأبنائها إلى البيت الكبير أثناء وجودها بالمستشفى مع زوجها.. وجن جنونها أي بيت كبير؟؟ هي تعرف حال أهلها لن يتحمل أبناءها تلك الحال التي هي أقرب للكفاف.. وهكذا انتقل الأبناء الغرباء ولم يستطيعوا التكيف وبقدر تململهم تأفف أهل “عايدة”.. أوضح د. “فيصل” زميل دراسة “الخير” لـ”عايدة” ضرورة الإسراع لعمل الفحوصات على ولديها لاختيار أحدهما للتبرع لوالده، ولكن فاجأه تراخي “عايدة” وكأن الأمر لا يعنيها فما كان منه إلا أن أرسل لوالد “الخير” (حاج مختار) فهو يعرفه من أيام الدراسة وكم قضى بعض عطلاته الدراسية معهم.. وسرعان ما امتلأ مستشفى الخرطوم بأهل “الخير”.. استضافهم ابن عمته الذي لازمه.. تغير الحال من وحدته إلا من مرافقة زوجته إلى مرافقة عشيرة كاملة وبدأ أبناء شقيقاته الخمس في إجراء الفحوصات التي جاءت نتائجها تطابق أنسجة اثنين منهم مع أنسجة خالهم فأصر كل منهما أن يكون هو المتبرع على الرغم من أنه لم ير خاله إلا وهو مسجى على فراش المرض.. ارتاحت “سعيدة” وتأكدت من أنها وأن خُذلت في ابنها فإن بناتها وأزواجهن قد عوضوها، فلم يقف أحد منهم ليسأل عن تصرفات “الخير” مع عشيرته، فهو لم يكن ابناً ضالاً.. بل كان خالهم الوحيد، وابن جارتهم “سعيدة” المرأة السحاب، وابن جدهم “مختار” الذي ربى ورعى، وهو ذلك الطالب الذي رفع اسم قريتهم عالياً بتفوقه قبل أعوام طويلة.. ولم ينس آباؤهم أن “الخير” في محنة ويحتاج من يؤازره ويشاطره، وقد كان، فها هو “الخير” محاط بشبان موفوري الصحة مبسوطي الأسارير على أتم الاستعداد للتبرع يقودهم جدهم (الحاج مختار)، وتحت أشجار المستشفى قبيلة بحالها تدعو الله الكريم أن يعافي ابنها.. أما زوجته “عايدة” فقد كانت تائهة حائرة، وأبناؤها البعيدون تماماً عن والدهم في سلبية كاملة، فهكذا أرادت أمهم التي لا تعرف من الحياة إلا الأخذ فقط أما العطاء فهو غير وارد في قاموسها.. قالت حاجة “سعيدة” كلمتها ليكن المتبرع “الخير” ود “حُسنة” لأن له أربعة أخوة ذكور أما “الخير” ود “رقية” فهو وحيد لثلاث شقيقات.. لأول مرة تدخل حاجة “سعيدة” غرفة وحيدها بعد أن تنحت زوجته تماماً.. بصوت واهٍ يسأل “الخير”: (الحيتبرع لي منو؟؟) فردت أمه بصوت قادر: (الخير ود حُسنة) فرفع بصره المتعب وسرعان ما أمسك “الخير” بيد خاله في حنو وبنوة تامة فدمعت عيناه.. فقالت “سعيدة”: (الخير ود رقية برضو مستعد يتبرع ليك لكن عشان هو وحيد أنا قلت لا).. كان “الخير” يستمع لأمه وهو لا يكاد يصدق هل مرت كل هذه الأعوام وهو غير مدرك لدورتها ليتفاجأ بوجود أبناء أخواته حوله في محنته يحيطون به إحاطة السوار بالمعصم؟! أغمض “الخير” عينيه وكأنه يود الاختباء، ولكن ها هي أمه تواصل: (كلهم أخدوا تسمك يا ولدي) قالتها بهمس شديد، فقد مرت عشرين عاماً بالتمام والكمال وهي لم تنطق بها.. سافر حاج “مختار” وحفيده برفقة “الخير” للعلاج وبقيت حاجة “سعيدة” مع أبناء ولدها.. وحيدها.. فهي لن تتركهم هكذا بلا انتماء حتى لوالدهم.. لن يحدث هذا أبداً.. هكذا قررت حاجة “سعيدة” وأنتم تعرفونها مثلي تماماً امرأة لا تعرف الانكسار ولا ترضى بالهزيمة فكيف الحال إن كان المعني أحفادها من “الخير” وحيدها.. وأنا جد متفائلة ومتأكدة من أنها ستنجح في إعادتهم للأسرة الممتدة والقبيلة من جديد.