قمة «البشير» و«سلفاكير».. نظرة إلى المآلات
يبدو أن زيارة اليوم الواحد التي قام بها الرئيس «عمر حسن أحمد البشير» إلى دولة الجنوب لبحث عدد من القضايا العالقة مع نظيره الجنوبي «سلفاكير ميادريت» قد أحدثت ما يمكن تسميته بتحريك المياه الساكنة في علاقات البلدين التي ظلت في حالة شد وجذب منذ خروج نتائج استفتاء فصل الجنوب وتكوين دولته المستقلة.
اللقاء ربما كان سانحة إضافية لقادة البلدين لإثبات حسن النوايا في اتجاه حل القضايا العالقة بينهما، وعلى رأسها قضية منطقة (أبيي) المتنازع عليها بين الدولتين من جهة وبين قبيلتي (المسيرية) الذين ينتمون إلى الشمال و(دينكا نقوك) الذين يدينون بالولاء إلى دولة الجنوب.
مخرجات اللقاء لم تجيء وفق ما اشتهى وتمنى الطرفان فحسب، ولكن الأعين التي كانت تراقبهما هي الأخرى أبدت غبطتها وسعادتها، وأعلنت عدد من الجهات الأممية والمعارضة ترحيبها بما تم الاتفاق عليه من الجانبين.
مطلوبات قادمة
أبرز ما انتهت إليه القمة هو الإسراع في تحديد خط الصفر بغرض إنشاء المنطقة الآمنة منزوعة السلاح قبل منتصف نوفمبر 2013م، وإحكام التنسيق لمنع الإيواء والدعم للحركات المسلحة، والإسراع في إجراءات فتح المعابر الحدودية بين البلدين بمجرد تحديد خط الصفر. عبر الجانبان في هذا الشأن عن رضائهما للتقدم المحرز بانسياب وتصدير النفط، والبدء الفوري في التنسيق للإدارة المتكاملة للحدود لتكون جسراً للتواصل وتبادل المنافع والمشروعات المشتركة بين البلدين. والاستمرار في التحرك المشترك لإعفاء الديون ودعم التنمية بالبلدين ورفع العقوبات الاقتصادية، وذلك بتقوية وإحكام الآليات المعنية بذلك. والتوقيع على اتفاقية لإعفاء حملة الجوازات الدبلوماسية والرسمية من تأشيرات دخول البلدين كخطوة أولى لتيسير تحركات المواطنين بين البلدين. وتنظيم مؤتمر للولايات الحدودية في البلدين في منتصف ديسمبر 2013م بغية تعزيز هدف الحدود المرنة. وتيسير تبادل الخبرات وبناء القدرات على مستوى الحكومات والأجهزة المحلية. وتسريع عمل اللجان المشتركة لمراقبة وتصدير النفط. وتعزيز التعاون بين المصرفين المركزيين والقطاع المصرفي في البلدين لتيسير الدفعيات وتنسيق السياسات النقدية والرقابة المصرفية. بجانب توجيه المصرفين المركزيين في البلدين للعمل كميسرين للتجارة والتحويلات المالية والمعاشات والمعاملات التجارية. هذه الإجراءات والإشارات الأولية اعتبرها مراقبون خطوة مهمة للغاية في تجديد شرايين الثقة التي لا تبقى على حال بين الدولتين، وهو ما أكده رئيس تحالف المعارضة «فاروق أبو عيسى» الذي تحدث لـ(المجهر) أمس وهو يومئ معضداً على ما انتهت عليه القمة بقوله إنهم يؤيدون أية اتفاقات تتم بين البلدين، وأن كل ما يساعد على امتصاص آثار التوتر بين طرفي الوطن – حسب قوله -، يجد منا الترحيب بالصوت العالي، وتابع: كل ما تم الاتفاق عليه بين البلدين يجد منا كل الترحيب والقبول، وكل ما هنالك هو أننا نرجو أن يكون هذا كلاماً حقيقياً يوضع موضع التنفيذ، وأن لا يكون للاستهلاك فقط.
خيارات التعايش في (أبيي)
وأكد «أبو عيسى» على أن العلاقة بين البلدين علاقة إستراتيجية، وحرصهم على إقامة علاقات تضيف للبلدين وتكون أكثر ايجابية، وزاد: لا مصلحة للبلدين في استمرار الحرب سواء أكانت هنا أو هناك، ونتمنى أن لا نعود إليها مرة أخرى، وأن ينفذ الطرفان الاتفاقات التي بينهما لتتوطد علاقات الشعبين.
ربما أكثر ما يؤرق كل الأطراف السودانية يتمثل في قنبلة (أبيي) الموقوتة، واتفاق الطرفين في القمة الأخيرة على الإسراع في إنشاء إدارة (أبيي) والمجلس التشريعي وأجهزة الشرطة والتأكيد على أن نسبة (2%) المخصصة لمنطقة (أبيي) من عائدات النفط المنتج بالمنطقة يتم تسديدها لإدارة (أبيي) بما في ذلك المتأخرات، أنار عتمة ساطعة في آخر نفق القضية برمتها، وجعل رئيس التحالف المعارض يؤكد أن المشكلة قابلة للحل لأن قبيلتي المنطقة عاشتا مع بعضهما مئات السنين، إلا أنه طالب الحزبين الحاكمين في البلدين برفع أياديهما عنها.
ورغم بعض الأصوات الجنوبية المتفرقة التي نشطت خلال الفترة السابقة للتقليل من مخرجات قمة البشير- سلفا، إلا أن كثيراً من تلك الأصوات لم تجد من يردد صداها، ولهذا فإن أغلبها لم يستطع التأثير سواء أكان محلياً أو إقليمياً أو دولياً، فقد أكدت (الأمم المتحدة) ترحيبها باللقاء وبيانه الختامي، وذات الأمر أظهرته دولة (الصين)، وترحيب مماثل من قبيلة (المسيرية) التي أبلغ ناظرها «مختار بابو نمر» (المجهر) أنهم يدعمون ما تم الاتفاق عليه بين قادة الدولتين، لافتاً في ذات الوقت إلى أن قيام حكومة في منطقة (أبيي) كفيل بإسكات الأصوات التي تنادي بإجراء الاستفتاء، وأضاف: (أي زول بعد دا يقول عايز يعمل استفتاء معناتو ح يبقى متهور ساي).
المجتمعات المحلية والقيادات الأهلية لـ(المسيرية) و(دينكا نقوك) يشكلون عنصراً مهماً في إعادة الأوضاع في (أبيي) إلى ما كانت عليه خلال العقود السابقة، وهو ما أكده «محمد مصطفى الأنصاري» حين أشار إلى أن دور الحكومتين ينبغي أن يكون عنصراً مساعداً للحل، وأضاف: (نحن ودينكا نقوك أصبحنا جسماً واحداً.. تداخلنا وتعايشنا ومن الصعب الفرز بيننا.. وعليه فإن حل المشكلات بيننا ليس مستحيلاً.. مجمل ما يمكن الاتفاق حلوه بكل شيء إما بالشراكة أو التناوب).
وقيادات (المسيرية) رغم يقينهم بأنها كانت الأقدم وأنهم أصحاب المنطقة، إلا أنهم دائماً ما يدفعون بخيار التعايش في المنطقة بينهم و(دينكا نقوك)، خاصة أن خيارات التعايش تبدو أقرب منها إلى خيارات الصراع مع الأخذ في الاعتبار أن بترول (أبيي) لا يستحق كل هذا الصراع الدائر بحسب الناظر «مختار بابو نمر» الذي أكد أن المنطقة ليست غنية بالبترول بحسب ما يشاع، وهو الأمر الذي أكده مدير (وحدة أبحاث السودان) بـ(مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية) الدكتور «هاني رسلان» الذي أكد ما يجري في (أبيي) أزمة مياه أكثر منها مسألة نفط، وبيّن أن الأزمة معقدة وتتجه إلى تعقيدات أكبر وأصعب بما يجعل منها مفتاحاً للحرب أكثر منها أداة لدعم الاستقرا ر بين شمال وجنوب السودان، مشيراً إلى أن البعد الخافي في أزمة (أبيي) ولا يحظى بتركيز وسائل الإعلام وهو أن (أبيي) أزمة مياه أكثر منها أزمة نفط ومعادن نظراً لتواضع إنتاج (أبيي) من النفط والذي يقدر بـ(6) آلاف برميل يومياً قابل للنقصان.
إجمالاً تظل العلاقة بين دولة السودان وجنوبه علاقة إستراتيجية لا تتأثر بالمزاج الوقتي لمتنفذي الحزبين الحاكمين، ويظل ما يجمع بينهما أكثر مما يفرق، ولهذا فإن أية تحركات تذهب إلى تأكيد ضرورة التلاقي والتعايش والسلام يعضد اتجاهات الحل المنطقي والأقرب إلى الواقع، وتبقى الصراعات الوقتية لا تعدو سوى أن تكون لحظات حرجة غير قادرة على التأثير في العمق الذي يجمعهما، وهو الأمر الذي أشار إليه «فاروق أبو عيسى» بقوله إن شعبي البلدين لا مصلحة لهما البتة في اشتعال الحرب مجدداً.