حرارة الاستقبال تجعل السماء تمطر عند توقيع الاتفاق بين «الخرطوم» و «جوبا»
عندما طلب مني الأخ «عماد سيد أحمد» المستشار الصحفي لرئيس الجمهورية تسليم جوازي لإدارة المراسم بالقصر، لم أتوقع أن تكون زيارتي لـ(دولة جنوب السودان) عبر جواز وتأشيرة، لأنني زرت الجنوب عشرات المرات ولم يخطر ببالي في يوم من الأيام أن تكون زيارة أبناء الوطن الواحد عبر جواز وتأشيرة، ولكن هذه هي السياسة التي أدت إلى تقسيم الدولة الواحدة إلى دولتين.
في صبيحة الثلاثاء الثاني والعشرين من أكتوبر الجاري كنت ضمن وفد كبير يقوده رئيس الجمهورية المشير «عمر البشير» وعدد كبير من أعضاء حكومته الفريق أول «بكري حسن صالح» وزير رئاسة الجمهورية، الفريق أول «عبد الرحيم محمد حسين» وزير الدفاع، السيد «إبراهيم محمود حامد» وزير الداخلية، الدكتور «عوض الجاز» وزير الطاقة، الأستاذ «عثمان عمر الشريف» وزير التجارة، والفريق أول مهندس «محمد عطا المولى عباس» رئيس جهاز الأمن والمخابرات، و»بدر الدين محمود» نائب محافظ بنك السودان، والدكتور «صابر محمد الحسن» محافظ بنك السودان السابق، والأستاذ «عماد سيد أحمد» السكرتير الصحفي لرئيس الجمهورية، والسيد «أزهري يسن»، والسيد «يوسف أحمد يوسف» رئيس اتحاد أصحاب العمل وعدد كبير من المسؤولين بجانب الإخوة الصحفيين «مصطفى أبو العزائم» رئيس تحرير الزميلة (آخر لحظة)، والدكتور «النجيب آدم قمر الدين» رئيس تحرير صحيفة (الأخبار)، والزميل «عبد الرحمن الأمين» رئيس تحرير الزميلة (الخرطوم).
أقلعت بنا الطائرة الرئاسية من مطار الخرطوم عند الثامنة وخمسة وثلاثين دقيقة بارتفاع (30) ألف قدم عن سطح الأرض.. الطائرة الرئاسية تمتاز بالأناقة والجمال والسعة التي تتيح لكل مسافر الجلوس في راحة كاملة. عند العاشرة صباحاً هبطت الطائرة بمطار (جوبا) وكانت درجة الحرارة قد بلغت ثلاثين درجة.
في المطار الذي أعد إعداداً رائعاً لاستقبال رئيس الجمهورية والوفد المرافق له، كان رئيس حكومة الجنوب «سلفاكير ميارديت» في كامل أناقته (البدلة السوداء) و(القميص البيجي) و(الكسكتة السوداء) التي درج على لبسها في كل المناسبات داخل وخارج (جوبا).
صعد الرئيسان المنصة وعُزف السلامان الجمهوريان لدولة الشمال والجنوب، ومن ثم تحرك الرئيسان لمصافحة الوفدين، صافح الرئيس «سلفاكير» وفد حكومة الشمال فرداً فرداً، ووقتها كنت أقف آخر شخص في صف الاستقبال، وعندما وصل الرئيس «سلفاكير» إلى زميلي «مصطفى أبو العزائم» الذي صافحه بحرارة أتى لمصافحتي وقال لي: من أنت؟، رددت عليه: أنا «صلاح حبيب» رئيس تحرير صحيفة (المجهر)، شدَّ على يدي وأومأ برأسه وكأنما يقول لي أعرفها وربما أقرأها. عقب انتهاء مراسم الاستقبال صعد الوفد كل في العربات التي خصصت له، بينما صعدنا نحن قبيلة الصحفيين حافلة كان قائدها يدير مؤشر الراديو إلى إذاعة ناطقة بالعربية ربما تكون إحدى إذاعات الجنوب، لأنني كنت استمع إلى بعض الرسائل الموجهة للمواطنين بالذهاب للتسجيل لتعلم اللغة الانجليزية عبر أرقام حددت لهم.
مدينة (جوبا)، بدت تشبه كثيراً من عواصم الدول، فقد اختفت المباني القديمة وتحولت إلى عمارات شاهقة وفنادق ضخمة ومبانٍ كثيرة تحت التشييد.
المدينة اتسمت بالهدوء وعدم الضوضاء، بينما كانت هناك حراسة أمينة مشددة على جنبات الطريق من المطار وحتى أمانة الحكومة أو القصر والتي دخل فيها الرئيسان «عمر البشير» و»سلفاكير» في اجتماعات مغلقة، فيما دخل أعضاء وفد الحكومة الشمالي والجنوبي في اجتماعات متنوعة منها الأمنية والتجارية وغيرهما من اللجان التي بلغت سبع لجان. كنا نجلس بالقرب من اللجنة التي تناقش قضايا التجارة والمصارف خاصة المركزين، وهذه اللجنة كان بها الأستاذ «عثمان عمر الشريف» والدكتور «صابر محمد الحسن» و»بدر الدين محمود» نائب محافظ بنك السودان.
الجانب السوداني كان يتحدث باللغة العربية، بينما يتحدث الجانب الجنوبي باللغة الانجليزية، ولكن لاحظنا كلما فرغا من بند فيه مصلحة البلدين خاصة في ما يتعلق بالتجارة والبنوك، كنا نسمع (صفقة) شديدة جداً من الجانب الجنوبي، وهذا يؤكد أنهم كانوا حريصين على الوصول لاتفاق في هذه القضايا، وقال الأستاذ «يوسف أحمد يوسف» إن الجنوب يحتاج إلى (179) سلعة من الشمال.
أما فيما يتعلق بالبترول وعبوره عبر الشمال، هذا ما أكده الدكتور «عوض الجاز» وزير الطاقة و»استيفن ديو» وزير نفط الجنوب، اللذان أكدا على استمرار النفط عبر الأنابيب الشمالية، وقد سادت هذا الوفد روح طيبة، ولمسنا من وزير النفط الجنوبي الذي يتحدث اللغة العربية بكل طلاقة أنه لا رجعة إلى إغلاق أنابيب البترول مرة أخرى، وقد تسلموا من عائدات النفط مليار دولار كان نصيب حكومة الشمال نظير العبور (300) مليون دولار، وقال إنهم يعملون على زيادة الضخ حتى يصل إلى (300) ألف برميل عقب انتهاء اللجان من أعمالها. دُعينا إلى قاعة فخمة علقت على جدرانها صورتان بأحجام معقولة، الأولى لرئيس حكومة الجنوب «سلفاكير»، والثانية للراحل «جون قرنق» الذي حقق السلام عبر الاتفاقية مع الشمال في 2005م، ولكن رحل في تحطم الطائرة بـ(يوغندا).
داخل القاعة جلس وفد الحكومة الشمالية على جانب، بينما جلس وفد حكومة الجنوب على الجانب الآخر، جلس في مقدمة الصف الدكتور «عوض الجاز» ووزير الداخلية و»حسبو محمد عبد الرحمن»، بينما كان الفريق أول «عبد الرحيم محمد حسين» وزير الدفاع أكثر حركة داخل القاعة، وكان يحث منسوبيه في وزارة الدفاع الأخ «بدر الدين عبد الله» أن يتأكد من إدخال التعديلات التي أقروها في البيان، الفريق «عبد الرحيم» كان مستمعاً جيداً للحديث الجانبي الذي تم بينه وبين الأخوة الصحفيين «مصطفى أبو العزائم» و»عبد الرحمن الأمين وشخصي، بينما وقف الأستاذ «عماد سيد أحمد» المستشار الصحفي لرئيس الجمهورية يستمع إلى حديث وزير الدفاع بكل أحاسيسه، تطرق الفريق إلى قضايا كثيرة وجدت رضا من المستمعين، أما وزير الخارجية «علي كرتي» كان أيضاً كثير الحركة هنا وهناك، يستمع إلى عدد من أعضاء الوفد، وكذلك الدكتور «مطرف صديق» سفيرنا بـ(جوبا).
استمعنا إلى حديث طيب من الأستاذ «مثيانق شريلو» رئيس تحرير صحيفة (المصير) الناطقة باللغة العربية، والتي تصدر في ثماني صفحات (تابلويت) وتطبع خمسة آلاف نسخة في اليوم، كانت تصدر في الخرطوم نظراً لقلة كلفة الطباعة، ولكن مشكلة الطيران جعلتها تطبع بـ(جوبا) بكلفة عالية وتباع النسخة بأربعة جنيهات.
رئيس تحريرها قال هناك حرية في النشر والتعبير، ولكن المخالفات يعني بها القضاء، بمعنى أن الصحف لا تغلق إلا بعد النظر من القضاء.
أحد المسؤولين في حكومة الجنوب سألته عن الحياة والمعيشة، قال لي السلع متوفرة ولكن بأسعار عالية، وقال إن الدولار في السوق الأسود يبلغ أربعة جنيهات، بينما الرسمي تبلغ قيمته الثلاثة جنيهات والثلاثة ونصف، وقال إن الجنوب في حاجة إلى بنية تحتية كبيرة، ولكن النهضة بدأت عقب التوقيع على البيان الختامي الذي وقع عليه من الجانب الشمالي الأستاذ «علي كرتي»، بينما وقع وزير خارجية الجنوب «برنابا بنيامين» عن الجانب الجنوبي.
وعقب التوقيع لبى الوفد الدعوة المقدمة من حكومة الجنوب لتناول وجبة الغداء التي عُزف في بدايتها السلام الجمهوري لدولة السودان، وكانت الوجبة دسمة لم تخل من ملاح (الروب) و(الملاح الأحمر) و(الكسرة).
وفي النهاية عُزف السلام الجمهوري لجنوب السودان كما عُزف اللحن الموسيقي (أيلاي بليدي كلنا أخوان)، مؤكدين على أن شعبي الشمال والجنوب مازالا أخوان. ومن ثم تحرك الوفد إلى منزل «مطرف صديق» سفيرنا بـ(جوبا) حيث أدى الوفد صلاتي (الظهر والعصر قصراً وجمعاً)، وتناول بعض الحلويات والمشروبات الخفيفة مع الشاي والقهوة.. وصلى الدكتور «عوض الجاز» بالوفد، فيما أقام الصلاة الفريق أول «عبد الرحيم محمد حسين» وزير الدفاع.
كبار الإخوة الجنوبيين لم يستطيعوا حتى الآن الفكاك من اسم الرئيس «جعفر نميري»، وذلك عندما كان مقدم برنامج الاحتفال يحاول إنهاء الاحتفال بعد كلمة المشير «عمر البشير»، أراد أن يشكر الرئيس «البشير»، فقال نشكر الرئيس «جعفر نميري» فضجت القاعة بالضحك.
غادر الوفد الرئاسي (جوبا) عند الخامسة والنصف والتي تحول الجو فيها إلى ربيع، فهطلت الأمطار دون مقدمات واغتسلت المدينة بماء السماء الصافي إعلاناً ببدء صفحة جديدة من العلاقات الأخوية بين البلدين.