المخرج «داؤود عبد العزيز» يسترجع شريط الذكريات ويحكي عن المواقف وليالي الأنس التي جمعته مع والده «أبو داؤود»
من أروع الصداقات التي ذاع صيتها بين الفئات الأشد حميمية وحباً من نجوم المجتمع، هي تلك التي جمعت الأديب الكاتب البروفيسور “أحمد المك” والمطرب العبقري “عبد العزيز محمد داوود”، فقد نشأت صداقة قوية بينهما تحدثت عنها أوساط المجتمع حينها.
وأمس الحادي عشر من أكتوبر صادف ذكرى رحيل الأديب الروائي القاص “علي المك” الذي توفي في العام 1992م له الرحمة والمغفرة ولتوأم روحه “أبو داوود”، فكلاهما رحل مخلفاً إرثاً إبداعياً وحباً أخوياً شفيفاً وذكرى تفوح كلما قرأت لكتابات “أحمد الملك” الرصينة الرائعة واستمعت لصوت “عبد العزيز محمد داوود” العذب الطروب.
ولعل الشاهد الأقرب على تلك العلاقة الجميلة وهو شخص يكن حباً لـ”علي المك” وتقديراً له، ويرى أن للراحل فضلاً كبيراً عليه في حياته، “داوود” ابن الراحل الفنان “عبد العزيز محمد داوود” الذي يشبه الأب تماماً في الشكل والصوت وحب الناس واللطافة، إضافة لكونه إعلامياً معروفاً ومخرجاً شهيراً بأوروبا وأمريكا وأسيا. ومن المعروف أن “داوود” لازم والده كثيراً، وعاش معه أجمل أيام حياته، ومدرك لجميع أصدقائه ومعارفه من الرئيس السابق “جعفر نميري” إلى أصدقائه في سوق بحري الذين يطيلون الوقوف معه ليحكي لهم شيئاً من قفشاته ونكاته بمرحه وابتسامته الودودة.
“داوود عبدالعزي” زمن مقر من إقامته بالمملكة المتحدة وعاصمتها لندن كتب في ذكرى رحيل “علي الملك” رفيق درب والده، والذي أيضاً عايشه عن قرب في فترتي الطفولة والشباب، وعبر (المجهر السياسي) ننثر عبق كتابات “داوود” التي ابتدرها بالترحم على روح الفقيدين والده “عبد العزيز محمد داوود” وعمه “علي المك” فقيدا الأدب والكلمة، والقصة والنكتة والبديهة الحاضرة وشجن الحديث وشجن الغناء والتطريب، وفن الإلقاء والكتابة والتهكم والسخرية والخطابة، ويكثر الحديث ويحلو كلما جاءت سيرتهما العطرة وتتعالى ذكريات عطرة بالهوى.
يتساءل البروفيسور “علي المك”: (بظلالها) تتميز الأشجار أم بثمارها؟
ويجيب “أبو داوود” بعذوبة دافئة برائعة “علي المساح” (غصن الرياض):
يا غصن الرياض المايد
يالناحلني هجرك وإنت ناضر وزايد
جافيني ليه وأنا ليك رايد
راقد في (ظلال) مجدك الطريف التالد
يا اللابس العفاف حلية وعقود وقلايد
كلما أعود بالذاكرة للوراء وخاصة إلى أيام المرحلة المتوسطة، تتداعى المشاهد على شاشة ذاكرتي، وأتذكر عندما كان يأتي “علي المك” من جامعة الخرطوم إلى منزلنا المتواضع ببحري حي الدناقلة شمال، وكنت أعرف قدومه من صوت ماكينة سيارته الـ(فولفو) سماوية اللون الفاخرة التي كان لها صوت مميز.. أسمع طرقاً على الباب تصحبه دندنة لم تغب أبداً عن مسمعي إلى الآن، ودرتان من درر الحقيبة كان يعشق أن يدندن بهما: (خمرة هواك يامي صافية وجلية هي اللاعبة بالألباب نسايم الليل ما البابلية) ورائعة “كرومة” و”عمر البنا” ونقرأ لهذا الملك “المك”: (وكتبنا سور القرآن على الألواح ومن الطوب الأخضر شيدنا تمثالاً في ذكرى من ماتوا جوعاً في العباسية.
رسمنا عشاءنا الأخير على سقف جامع عبد الغفار وعلي سقف كنيسة ماري جرجس.. علقنا رسم أبي ذر والموناليزا تبيع الفول بحي الشهداء) يا لها من متعة أيها “المك” طيب الله ثراك.. وتتواصل الثرثرة حول ظلال هؤلاء القمم الشوامخ الباقين في أعماقنا ما بقينا على ظهر هذه البسيطة، وترجم لنا “علي المك” بعضاً من حياة الشعوب وحضاراتهم، فنها وآدابها، بأسلوب رفيع سلس بسيط، وحدثنا عن جمال الفنون وروعة الأدب الغربي من “شكسبير” إلى “هاملت” مروراً بأغاني (الزنوج الأمريكان) “أمريكانز نقروز” ثم اتكاءة على الموسيقى الكلاسيكية التي كان يعشقها كل العشق من موسيقى “يوهانس برامس” إلى سيمفونيات “موزارت” و”بتهوفن” إلى “أنطونيو فيفالديكنت”.. وكنت لا أفهم كثيراً في ذلك العمر المبكر كل ما أقرأه للبروفيسور ولكنني كنت اقرأه على أية حال وكنت استمتع بما يجود به فهمي، بالإضافة إلى حبي الفائق الذي يصعب وصفه لهذا “المك”، وتبلور هذا العشق الموروث للبروفيسور في تحديد مسار طريقي الأكاديمي وبدراسة الإعلام، والتخصص في تراث وفلكلور وموسيقى الرجل الأسود، ولم لا وأنا ابن السواد الأعظم كما كان يحلو للبروفيسور أن يسمي “أبو داوود”.. ويرحل بنا البروفيسور “المك” من الكلاسيكية إلى إيقاعات الفالس والمامبو والمارش مروراً بالرومبا والسامبا، حيث كتب وحدث وقرأنا وسمعنا، وما أجمل ما قرأنا، وما أبلغ ما سمعنا من روعة الأدب الغربي إلى جمال الحقيبة العجيبة، إضافة لكتاباته الثرة عن رفيق دربه “عبد العزيز أبو داوود”. كما يأخذنا بروفيسور “علي” ويرحل بنا من شعر الحقيبة إلى شعر الأندلس وغرناطة وأشبيلية، وأدب “روبرت فوكس” و”قارثيا لوركا”، وموسيقى الفلامنقو الأسبانية، وقصص قرطبة، وحنجرة “أبو داوود”، وسحر ألحان “برعي محمد دفع الله”، وشعر “الخليل”، ونماذج من الأدب الزنجي، وعشق أم درمان والمريخ، وروعة “كرومة”، والطبيعة وشعر لم أسمع به من قبل، ولكني عشقته كما عشقت ذاك “المك” وما جاد به قلمه، لباقة إلقائه ومتعة السمع لدرجة الشبع.
ويبحث بروفيسور “المك” عن طوب الأرض ليشكو له سوء حالته المتردية فيقول: (أردت أن أشكو لطوب الأرض بلوتي وسوء حالتي وحينما وصلت سألت أهل الدار أين طوب الأرض.. قالوا ذهب يشكو سوء حاله لطوب السماء).. وهنا نجد “أبو داوود” يعيش نفس حالة البروفيسور ولكنه لا يبحث عن طوب الأرض ليشكو له والسبب عدم درايته بالمشتكى إليه ونعيش لحظة شجن: (سيبوني بس على بلوتي لمين أقدم شكوتي)، ثم يلتقي بـ”مبارك المغربي” في رائعته (نسمات الشمال)، وهو ما يزال في حيرة من أمره يشتكي أم لا يشتكي وهل تفيد الشكوى أم البكاء؟ هل يفيد الأسى والنواح؟ (ما بفيد الأسى والنواح من فراقه أنا صبري راح).
أخيراً وليس آخراً، لكل محبي “أبو داوود” و”علي المك” و”برعي” الرجاء المشاركة بالتدخل لفك قيد أعمال “أبو داوود” التي أكملت الثلاثين عاماً، وهي حبيسة بعاصمة الضباب، كما كتب البروفيسور “علي المك” حينها في نعيه لـ”أبي داوود” دخلت الخرطوم (بحري بيت الحبس) وما كان يعلم أن جهده الجبار لتوثيق أعمال عمالقة الحقيبة بصوت “أبو داوود” لشعب يعشق الكلمة والنغم الجميل لم يدر أنها أيضاً ستدخل (بيت الحبس) وأي حبس هو! ذلك الذي يمتد ليناطح الثلاثين عاماً وكم في العمر من ثلاثين عاماً ينتظرها عشاق الحقيبة و”أبو داوود” و”برعي” ليروهم على الشاشة، وإذا رأوهم هل من منصف لـ”أبي داوود” و”علي المك” و”برعي”؟ هذا إرث ثقافي وطني قومي وهو ملك لكل سوداني.