تقارير

مشاهدات وحكايات على هامش جلسات مجلس حقوق الإنسان بـ(جنيف)

هي حقاً لوحة صامتة.. هكذا قالت عنها مندوبة السودان الدائمة بجنيف وسفيرة السودان لدى سويسرا السفيرة «رحمة صالح عبيد». هبطنا في مطارها والخضرة تكسوها كما العروس في ثوب زفافها، والمياه والتلال حيث سلسلة جبال الألب تحيط بها من كل جانب ومياه بحيرة البجع يضيف لتلك اللوحة لوناً زاهياً، تنشرح له النفس وترتاح من كل الهموم ومشاغل الحياة القاسية.. هم عاشوا جنتهم في الدنيا وأخذوا حظهم كاملاً غير منقوص.. تلك هي مدينة جنيف أم المدن التي تدافع عن حقوق الآخرين،حيث منظمات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى العاملة في مجال حقوق الإنسان، ولهذا السبب غادرنا إليها ضمن وفد وزارة العدل برئاسة الوزير «محمد بشارة دوسة».
«لومينيا» و»محمد حق».. أوجه التضاد!!
وصلناها وسبقنا إليها من خبروا المكان وأصبحت مجموعتنا التي يرأسها الأستاذ «أحمد شرف الدين» المستشار الصحفي لوزير العدل، تضم الأساتذة «مصطفى أبو العزائم» و»يوسف عبد المنان»، و»عبد الرحمن الأمين» و»محمد الأمين دياب» و»عمر حسن حاج الخضر» والزميل «فتح الرحمن شبارقا» ومعنا المستشار بوزارة العدل مولانا «حسام يحي».
وصلنا إلى مقر البعثة الدائمة بجنيف ووجدنا هناك المستشارتين «أميمة مبارك السماني» والدكتورة «تهاني يحي» واللتان ظلتا في حالة صداقة دائمة مع السهر، لأجل إكمال ومراجعة التقارير التي يعتزم وفد السودان تقديمها أمام مجلس حقوق الإنسان، ويرافقهن الدكتور «معاذ تنقو» مقرر المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان ومولانا «حسام يحي». وطاقم السفارة السودانية في جنيف ظل في حالة حراك دائم ومستمر طوال أيام إقامتنا معهم برئاسة السفيرة «رحمة» والسفيرة «حمزة»، وحتى العاملة الأجنبية (لومينيا) والسائق «محمد حق» ظلا متحركين في تضاد محير، فالأولى لا تفارقها الابتسامة والأخير تبدو ملامحه صارمة ولا يعرف وجهه للابتسامة سبيلاً..
عفواً فمفهوم ومعنى الأجنبي هناك قد تلاشى ولم نسمع عن خط صفري لترسيم الحدود بين سويسرا، حيث مدينة جنيف وفرنسا وإقامتنا ببلدة (فيرني فولتير) والفاصل بين الدولتين، طريق وغرفة يقف بجوارها عدد محدود من الجنود، لا يعترضون المارة ويكتفون بالنظر ليس إلا، ولم يسألنا أحد عن هويتنا أو وجهتنا التي نقصد، ونحن الذين ظللنا نعبر بذات الطريق صباحاً ومساءٍ لأيام وليالٍ.
اختلطت في ذهني الأشياء وهاجت المقارنات بين ما رأيت وما عشته في بلدي، ولكني انصعت أخيراً إلى دعوة السودانيين في السفارة للجميع بعدم عقد المقارنات سيما عند التسوق.. تلك العبارات أراحتني وهدأت هياجي.
في فجر اليوم الأول غاب صياح الديوك التي يستيقظ الناس على أصواتها في بلدي، واستبدلتها المدينة على نحو خجول بزقزقة العصافير التي تسمع بوضوع من على نوافذ الشرفات المفتوحة، وتدخل مصحوبة بموجات البرد التي تداعب الأطراف، كما تداعب الأم طفلها الرضيع، وأحياناً شعاع الشمس الدافيء وعلى غير العادة يستبدل صمت الطبيعة إلى حركة تفرض على الناس عموما والنساء هناك على وجه الخصوص استبدال أزيائهن إلى شيء أقرب إلى العدم.
جمال الطبيعة هناك يعبث بأفئدة الناظرين كما يعبث إنسان الشرق بالبن عند قليه على نار هادئة، ولم تدهشني ضخامة البيوت ولكن ما يدهش حقاً الدقة والتأنق حتى في الطرقات.. الجدران وواجهات المنازل والنوافذ والمداخل المزروعة، والشرفات المحفوفة بالورود ونباتات الزينة.. باختصار المكان كله دقيق في النصع ومنظم ومتأنق حتى الحيوان لديه أماكن مخصصة لشراء الطعام والعلاج، بل ولديه مناديل خاصة يستعملها للنظافة بعد قضاء الحاجة، ونساؤهم لديهن غرام غريب مع الكلاب التي يخرجن بها بشكل منتظم للترويح عنها في بحيرة البجع أو في طرقات المدينة الهادئة.. الشوارع نظيفة كأنها عروس تغتسل كل ليلة فتصبح مستبشرة.. والنساء يتمايلن في مشيتهن كأنهن خيوط بخور صباحي يتسرب من غرفة محكمة الإغلاق.
قفشات وحكايات من الغرف المغلقة!!
أتينا جميعنا طوعاً أو كرهاً عند السابعة من صباح السادس عشر من شهر سبتمبر إلى استقبال الفندق، وتوجه بعضنا إلى صالة الطعام وظل آخرون انتظاراً لوصول العربة التي ظلت ترسلها لنا السفارة من جنيف، لتأخذنا إلى حيث مقر مجلس حقوق الإنسان لحضور المداولات حول مشكلات العالم اللاهبة أو إلى مقر البعثة.. تلك أيام قضيناها بتلك الطريقة التي أكدت أن البيئة تؤثر في الإنسان وتغير طبعه وسلوكه طوعاً أو كرهاً.. وتبددت قناعات الكثير منا في أن السودانيين لا يعرفون النظام ولا ينضبطون بالوقت ويهدرونه في الثرثرة.. هذه الأخيرة لن أنكرها ولا ينبغي ذلك، فجميعنا ظل يتجمع في غرفة واحدة ونتبادل أطراف الكلم ويؤانس بعضنا بعضاً.. قفشات «عبد الرحمن الأمين».. قصص وحكايات «يوسف عبد المنان».. أغنيات العم «مصطفى أبو العزائم» التي يشارك بها من على جهاز (الآي باد).. ضحكات «محمد الأمين دياب» الصافية.. ومداخلات «عمر حسن» التي تحيل المكان إلى ضجيج وعلى قلتها.. هدوء ورزانة المستشار «حسام» وطيب معشره.
قطاع الشمال.. هجمات مرتدة!!
الحديث طويل كما كثافة العمل الذي شاهدناه في داخل مقر البعثة، حيث نظرات مولانا «أميمة» والدكتورة «تهاني» تحدث عن فتور وإعياء واضحين، ولكنهما دائماً تحمدان الله ولا تحدثا السائلين عن الإجهاد الذي بدا واضحاً على وجهيهما، جراء السهر والتركيز فيما بين السطور.. وذلك كان مجهود ضخم لوفد وزارة العدل بالعاملين من خلف الكواليس ووزيرهم الخلوق مولانا «دوسة»..
وبمثل ذلك المجهود يعمل طاقم البعثة الدائمة، ووضح ذلك مما تابعناه في مقر مجلس حقوق الإنسان.. في الرد على بيانات المنظمات التي نشطت قبل وأثناء وبعد جلسات التداول، ووفد قطاع الشمال الذي يرأسه «عبد العزيز الحلو» و»ياسر عرمان» تحرك بشكل كبير في ذات المساحات التي لعبت فيها الحكومة.. هجمات أُفسِدت وأخرى استمر مفعولها بهجوم بعض البلدان على السودان وحكومته وأفعالها في شأن حقوق الناس.. والحريات الصحفية وقانون الأمن واعتقال الناشطين كان الأكثر تناولاً ولكن الخلاصات اختلفت عن تلك التوجهات.. بدا لي واضحاً أن القرارات التي تصدر عن مجلس حقوق الإنسان لم يكن مكانها تلك القاعة سباعية الأبعاد، وإنما الحوارات والتفاهمات بل والتفاوض الخفي والمعلن الذي قاده طاقم السفارة بسويسرا أو، الذي انضم إليه وزير العدل مولانا «محمد بشارة دوسة» في وقت لاحق هو الذي أفضى إلى تجديد ولاية الخبير المستقل لحقوق الإنسان في السودان «مشهود بدرين» لولاية جديدة، ومنحه تفويضاً تحت البند العاشر المتعلق بتقديم المساعدات الفنية للسودان..
أمريكا التي منعت الرئيس «البشير» من الحصول على تأشيرة للدخول إلى أراضيها لممارسة حقه كرئيس لبلد عضو في منظومة الأمم المتحدة، هي ذاتها وعبر سفيرتها بسويسرا تقترح تمديد ولاية الخبير المستقل تحت البند العاشر، بعد أن هاجمت السودان وقدمت انتقادات مخففة للحكومة السودانية ولتقرير الخبير «مشهود بدرين»، ويبدو أن تلك الانتقادات تهدف لحفظ ماء الوجه ومخاطبة الداخل الأمريكي أكثر من كونها قناعات حقيقية للبلد التي تحكم قبضتها على العالم، وتلخصت انتقادات أمريكا لتقرير «بدرين» في أن مصادره التي اعتمد عليها في إعداد التقرير لم تكن متنوعة أو متعددة، ما أعطى إشارات إلى أنه اعتمد على مصادر حكومية فقط. بتلك الانتقادات اختتمت سفيرة أمريكا خطابها بعد أن تقدمت بمقترح صريح يطلب من المجلس، أن يمدد ولاية الخبير المستقل لحقوق الإنسان في السودان لدورة جديدة تحت البند العاشر، وقطعاً لتلك الدعوة إشارات ودلائل أولاها أن الحوار السري بين أمريكا والسودان والذي عقد بجنيف، قد توصل لتفاهمات رضيت عنها الأخيرة. وقالت على ضوئها ذلك الحديث الايجابي بحسابات السياسة، والتي تعنى بالنهايات لا بالكلمات ولكمات البدايات.
(تابلوهات) وزير العدل مع الخبير المستقل!!
(التابلوهات) التي لعبها مولانا «دوسة» مع الخبير المستقل «مشهود بدرين»، خلال اللقاء التنسيقي الذي استبق تقرير الخبير المستقل أمام المجلس بيوم، دار فيه حديث صريح بين الرجلين طلب من خلاله وزير العدل صراحة من «بدرين» أن يخاطب المجلس طالباً منه مطالبة المجتمع الدولي صراحة بوقف الحرب بجنوب كردفان والنيل الأزرق، باعتبارها تمثل مناخاً ملائماً لانتهاكات حقوق الإنسان، وضرورة الضغط على الحركات المتمردة في السودان لتنضم للسلام، وعدم توفر الملاذات الآمنة للحركات المتمردة حتى لا تعود للحرب.
عبارات أخرى ذكرها وزير العدل للخبير المستقل عله أراد من خلالها أن يخاطب مشكلة الاقتصاد السوداني ويوجد لها مبرراتٍ وأسباباً موضوعية، حيث قال دوسة أنه طلب من «مشهود بدرين» أن يضمن مطالبة السودان للمجتمع الدولي بعدم تجزئة الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والثقافية والتعامل معها بصورة كاملة، وأضاف (لدينا مشاكل في أن السودان مفروض عليه عقوبات اقتصادية آحادية، وعقوبات منع للشركات وأثر ذلك على المجتمع السوداني واضح، ومنحنا الخبير المستقل نماذج في الطيران والسكة حديد والمراعي وغيرها). وطالب «دوسة» الخبير بأن يطالب المجتمع الدولي بالربط بين تلك الآثار وحقوق الإنسان، ومساعدة الدولة في توفير تلك الخدمات للشعب السوداني، وضرورة إعفاء ديون السودان الخارجية.
«مشهود بدرين».. محاولة إرضاء الكل!!
«مشهود بدرين» بدا كما الأصبع بين فكي طفل حديث عهد بالتسنين، فعمل على اختيار كلمات أراد بها أن يرضي جميع الأطراف، وقطعاً ذلك غير ممكن فقد طالت الرجل عبارات قاسية وقوية بدبلوماسية ناعمة وجهها له وزير العدل، على إثر دخول بعض التغييرات في خطابه أمام المجلس، ولكن ذلك التغيير في تقرير الخبير المستقل لم يكن موجهاً للسودان وحكومته، وإنما لأطراف أخرى تلعب مع الرجل من وراء ستار، وتضغط عليه بشكل كبير ليغير من كلماته ويزين بها تقريراً محشواً بالإدانات للسودان، ولكن الرجل لم يفعل، وكتب كلمات قيل إنها متوازنة ومقبولة وصوب طلقات أخرى مفرغة من البارود القاتل (طلقات فشنك) في كلمات لا يؤخذ بها في التصويت ولا في المداولات الرسمية، لكونها غير مضمنة في التقرير المودع لدى المجلس، ولعل «بدرين» أوصل تلك الرسالة بعد الانتهاء من الخطاب بذهابه فوراً لوزير العدل خارج القاعة، وحديثهما الثنائي الذي استمر لفترة طويلة قبل أن ينضم إليهما آخرون من وفد السودان.
وفد السودان.. (الدولار الأبيض لليوم الأسود)!!
وفد السودان إلى محفل جنيف زاد عن السبعين عضواً من وزارة العدل والبرلمان ومنظمات المجتمع المدني ومؤسسات حكومية أخرى، وقطعاً ذلك الوفد لم يكن كله من الخبراء أو الفنيين الذين يحتاج إليهم السودان في مثل تلك المناسبات، في ظل واقع يحتاج فيه البلد لـ(الدولار الأبيض لليوم الأسود).
ندوات جانبية عقدت وأوراق قدمت ومناقشات دارت في فضاء مفتوح الذي حضروا الدورة السابقة، أشاروا إلى نجاح منظمات المجتمع المدني التي حضرت والتي حضر معها وفد من المؤتمر الوطني ضم أمين أمانة الإعلام الأستاذ «ياسر يوسف» وأمين أمانة المنظمات الأستاذ «عمار باشري» ومدير مكتب المؤتمر الوطني بالقاهرة الدكتور الوليد سيد.. البعض يقول إن نجاح تلك الندوات يأتي من الحضور الذي شارك من مختلف البلدان العربية والأفريقية والبلدان الأخرى، ووجدت المنشورات والمطبوعات التي وزعها الدكتور «معاذ تنقو» إقبالاً كبيراً وشملت تعريفاً بمجهودات الحكومة في مجال التشريعات والقضايا المرتبطة بمختلف مجالات حقوق الإنسان، حيث توافد الكثيرون للسؤال عن تلك المطبوعات التي نفدت في وقت باكر.
قرار وتوصيات المجلس
صدر قرار مجلس حقوق الإنسان في دورته الرابعة والعشرين، وقضى بتمديد ولاية الخبير المستقل للسودان «مشهود بدرين» عاماً آخر وفق البند العاشر من ميثاق المنظمة الأممية، بعد الاستماع لتقرير الخبير المستقل. وطالب القرار المجلس وآليات الأمم المتحدة والدول الأعضاء والمهتمين بالشأن الإنساني، بتقديم الدعم الفني لآليات حكومة السودان المنشأة لهذا الغرض، وفق هذا القرار الهادف لتحسين حالة حقوق الإنسان بالسودان. وأشار المجلس للتحديات التي يواجهها في مناطق النزاعات، داعياً الحركات المتمردة إلى وقف الانتهاكات التي يتعرض لها المواطنون في تلك المناطق، وثمن المجلس بتعاون الحكومة مع الخبير المستقل أثناء تنفيذ ولايته بما في ذلك السماح له بزيارة كل المواقع التي أرادها، مشيداً بتقديم السودان للتقرير الدوري الشامل لمنتصف المدة، وتطبيق توصيات الخبير المستقل التي قبلها السودان في إطار التقرير الشامل، مرحباً بتعاون السودان الواضح مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDPويشجع الحكومة على متابعة الحوار المفتوح الذي بدأته حول الدستور والانتخابات التشريعية القادمة في العام 2015،.شدد المجلس في قراره على الجماعات المتمردة ضد الحكومة وضرورة التزامهم بالقوانين وعدم انتهاك حقوق الإنسان في مناطق النزاعات،  ونوه المجلس إلى الجهود التي تقوم بها حكومة السودان من أجل تقوية التعاون مع حكومة جنوب السودان، كما أشارت بذلك مقررات اجتماع رئيسي الدولتين بالخرطوم مؤخراً.
ودعا المجلس في خاتمة حيثيات قراره الدول الأعضاء ، ومكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان بالإسراع في تقديم الدعم الفني والتدريب، وبناء القدرات، مطالباً الخبير المستقل مساعدة السودان على تطبيق الإستراتيجية الوطنية الشاملة لحماية حقوق الإنسان، وما تبقى من توصيات التقرير الدوري الشامل.
خارج النص!!
رجلان ظهرا من بعيد.. الأول كان مألوفاً ومعروفاً للجميع، والثاني عرفه البعض وقالوا إنه ناشط سوداني معادي للحكومة السودانية ويعمل في التركيز على قضايا دارفور.. الأول قلع جلباب شيوخ الدين والعمامة التي كان يلفها على رأسه في السودان، وخفف من لحيته قليلاً وتناقص وزنه وتراجعت صحة جسده كثيراً، وقالد الجميع بإلفة ومعرفة وهو الدكتور «يوسف الكودة» الذي ينتظر النظر في طلب اللجوء الذي تقدم به إلى سويسرا في الأشهر الماضية. والرجل الثاني لم يكن حريصاً على معرفة أحد وجلسا متجاورين في آخر مقعدين في مجلس حقوق الإنسان من المقاعد المخصصة للإعلاميين والصحفيين، يشيدان بمداخلات بعض الدول وينتقدان بصوت مرتفع كل من يتحدث بإيجابية عن حدوث تقدم في موقف الحكومة السودانية في مجال حقوق الإنسان في السودان.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية