أخبار

الأول يا "سعاد" !!

} لو كانت نتائج امتحانات الشهادة السودانية تخضع لاعتبارات الزمان والمكان والبيئة الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية من حيث توفر المقومات الأولية لبيئة دراسية مثالية، لذهبت شهادة أول السودان بعيداً عن ابن كسلا – الذي حاز عليها هذا العام بكفاحه وعرق جبينه ومثابرته – لطالب آخر نضع حيثيات نشأته والمناخات التي درس فيها وطموحه وآلامه، التي تبلغ حد الوجع، وللقارئ وحده حق رفض الفكرة أو قبولها.
} “عبد الناصر إسماعيل عبد الله” جلس لامتحانات الشهادة السودانية هذا العام من مدرسة الفاشر الثانوية.. شاب يتسم بالهدوء والمتواضع الشديد.. اكتسى وجهه بسحابة من الحزن العميق الدفين.. في عام 2003م كان في السنة الثانية بمرحلة الأساس يقيم مع والده ووالدته في قرية كورما غرب الفاشر.. عاد يوماً ليضع حقيبته الصغيرة على العنقريب ويذهب لكوخ والدته لتناول وجبة الإفطار والغداء معاً.. وفجأة دوى صوت السلاح مجلجلاً في القرية.. “عبد الناصر” الصغير شاهد بأم عينيه والده يسقط وسط المنزل وينزف الدم من رأسه ويرتفع صوته منادياً زوجته.. لا إله إلا الله.. الموت حق والحياة باطلة.. مشهد الدم يسيل من جسد الوالد حفر عميقاً في وجدان الطفل الصغير، وربما كان هو السبب وراء مسحة الحزن الكامنة في صورته حتى اليوم.. مات “إسماعيل” برصاص الكر والفر ما بين (التربورا) و(الجنجويد) وكلاهما لا يعرف عنهما “عبد الناصر” خيراً.
} حملته أمه على ظهر حمار واتجهت مثلها وآلاف المدنيين من ضحايا النزاع المسلح في دارفور نحو مدينة الفاشر بحثاً عن الأمن المفقود في كورما وطويلة والقرى المتناثرة على خاصرة جبل مرة والأودية التي تنساب شرقاً وغرباً جنوباً وشمالاً. أقام “عبد الناصر إسماعيل” مع والدته وإخوته الصغار في كوخ من جوالات الخيش البالية.. ومشمعات جادت بها منظمات الغوث الإنساني القادمة من بلاد ترامت وراء بلاد.. وأخذ الطفل طريقه بعد عام من فجيعة مقتل والده ونزوح أمه وإخوته لمدينة الفاشر للعيش في معسكر نازحين أطلق عليه اسم (أبو شوك) كناية عن صعوبة الحياة وشظفها في تلك البقعة التي تسمى بفاشر السلطان.. لا يملك “عبد الناصر” دراجة هوائية.. ولا يذهب للدراسة بسيارة خاصة.. ولا تستطيع أسرته توفير ثمن (ساندوتش) الإفطار.. مثله وآلاف الطلاب الدارفوريين ممن سحقهم الفقر والبؤس بسبب داء الحرب.
} استطاعت والدته توفير مبلغ مالي لشراء (لمبة) صغيرة تعمل (بالكايروسين) حتى يسترجع الطالب “عبد الناصر” في المساء.. المعسكر بلا كهرباء ولا مياه شرب نقية ولا ترفيه.. الذين يقطنونه فقدوا كل شيء إلا كبرياء الفور، وعزة وشموخ الزغاوة، وصبر المساليت، وعزائم التنجر.. جلس “عبد الناصر” لامتحانات الشهادة السودانية العام الحالي وحصل على (90.9%) متفوقاً على كل طلاب ولاية شمال دارفور حائزاً على المرتبة الأولى.. ويوم أن أقامت ولاية شمال دارفور احتفالية بأوائل الشهادة السودانية.. أهدى “عبد الناصر” النتيجة لروح والده المقتول غدراً ولوالدته الصابرة ولكل نازح بسبب الحرب.. وقال سأذهب للخرطوم لأدرس الهندسة..رغم أنني كنت متنازعاً ما بين دراسة الحقوق – عسى ولعل أن أرد حقوق أهلي – وما بين الطب والهندسة فاخترت الأخيرة.
} تلك كلمات “عبد الناصر إسماعيل”.. قاهر الظروف الصعبة والإمكانيات الشحيحة والبيئة غير الصالحة للتعليم، ألا يستحق هذا الطالب أن نمنحه صفة أول السودان الحقيقي قياساً بظروفه وتداعياتها؟! ومتى تمسح الوزيرة “سعاد” وأختها “مشاعر الدولب” بحنان الأم ومسؤولية الوزير الدمعة عن “عبد الناصر” الذكي المتفوق على المترفين في المدن؟!!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية