كلُّ فتاةٍ بأبيها معجبة..!!
يُروى أن “العجفاء بنت علقمة السعدي”، خرجت مع نسوة من قومها وجلسن في روضة معشبة، وأخذن يتسامرن حتى أفضن في الحديث قائلاتٍ ومتسائلات: (أي الرجال أفضل؟). فعددت كل واحدة منهن من أطيب الخصال، السيدُ الكريم، ذو الحسب العميم، والمجد القديم، والسخي الوفيّ، الحَظِيُّ الرّضِيُّ غير الحظال ولا التبّال (الحظال: المقتر المحاسب لأهله على ما ينفقه عليهم، التبال: الحقود).
فلما جاء دور “العجفاء” قالت: (وأبيكنّ إن في أبي لنَعتكنّ، كرم الأخلاق، والصدقَ عند التلاق، والفلج عند السباق (الفلِج هو الظافر الفائز)، ويحمده أهل الرفاق، وكل فتاةٍ بأبيها معجبة) ومنذ ذلك الحين وهذه العبارة (كل فتاة بأبيها معجبة) أصبحت من الأمثال العربية الشائعة.
لا أحترف الكتابة، وقد لا تكون حتى من عاداتي أو هواياتي..!
ولست محبةً للسياسة، ولا ألقي لها من البال إلا ما يجعلني فقط مواكبةً لما يدور حولي..!
وأبناء الزعماء والقادة السياسيين لا يمثلون القدوة بالنسبة لي، بل وحتى بناتهم، البارزات منهن، لا يثرن إعجابي أو القليل من اهتمامي..!
لكن ما دفعني لأكتب ما أكتبه الآن، هو أن ما تنافست على كتابته الأقلام في الأيام الماضية من إطراء وثناء على والدي، وما نُشِر على الصحف والمواقع والمنتديات الإسفيرية، استفزّني جداً، فوجدتُ نفسي أَولى منهم جميعاً بالكتابة؛ فكما أسلفت (كلُّ فتاةٍ بأبيها معجبة).. فكيف إذا كان ذلك الأب “حاج ماجد محمد السوار”..؟!
في حيرةٍ من أمري، من أين أبدأ لكم سردي، وكيف أختمه! هي محطاتٌ فقط، وقليل من المقتطفات وبعضٌ من الذكريات، تمثّل غيضاً من فيض في حضرة أبي.
لكن بدايةً دعوني أحدثكم قليلاً عن أسرة “السوار”، ذلك الشيخ (الهبّاني– عربي الأصل) الوقور الذي نذر حياته داعياً للإسلام ولشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وعاش حياته في سبيل ذلك، تاركاً أبواب بيته مفتوحةً ومشرعةً لكل من قصده وقصد خلوته، حيث هاجر لنشر الدعوة الإسلامية واستقر بجنوب كردفان. وعُرف عنه البذل والعطاء والإيثار، وفي ذلك تحضرني طرفة كان قد قصّها لي أحد أعمامي قائلاً إنهم كانوا يزرعون في فترات الإجازة عندما كانوا صغاراً، ويحصدون زراعة أبيهم، ويبيعونها ومن ثم يحضرون المال لأبيهم ويقفون في انتظار أن يمنحهم ولو القليل مقابل ما قاموا به من جهد، إلا أن ما يحدث هو أنه يكتب لهم قائمةً طويلةً من الأسماء والأسر المحتاجة ويقسم الأموال على حسب حاجة كل منهم أن أعطوا فلاناً كذا وعلاناً كذا من المال، حتى لا يبقى منه شيء! فيحتجون قائلين: (يعني يا أبوي نحنا نقعد نزرع لي الناس كدا لي متين؟!).
ربّى أبناءه فأحسن تربيتهم وتهذيبهم، وغرس فيهم الإيمان وطيب الخصال من صدقٍ ووفاء وشجاعة وكرم واحترامٍ للضيف، فعلى سبيل المثال حكى لي والدي، أن عمّي “الحافظ محمد السوار” (الذي انتقل إلى جوار ربه في الأيام القليلة الماضية – رحمه الله وتقبله قبولاً حسناً)، أنه عندما كان طالباً لا ينام إلا وقد غسل ملابس ضيوف خلوة أبيه وقام بكيّها وأعد لهم أباريق الوضوء أمامهم.
أما إن أردتم أن تلتمسوا المعنى الحقيقي للآية: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، فقط أدعوكم لحضور إحدى مناسبات (آل السوار)؛ التي ستجدون فيها كل قبائل السودان مجتمعةً، حيث تزوج شيخ “السوار” هو وأبناؤه من مختلف قبائل السودان فتجد (الدناقلة، الشوايقة، الجعليين، الحوازمة، الحلاويين و… غيرها من القبائل السودانية). وأسرتنا الصغيرة شاهدٌ جيد على ذلك، فوالدتي من أسر لا تقل عراقةً، من شمال السودان (مزيج من الدناقلة والجوابرة)، استوطنوا كردفان وتعايشوا مع قبائلها وأهلها.
إذن فقد شكلت أسرة شيخ “السوار” هذه، نموذجاً للقومية والتعايش، وعدم التعصب لقبيلة بعينها والانغلاق فيها..!
أما أبي فهو وريثٌ شرعي لكل تلك الصفات والأخلاق، وشخصيته القيادية لم تكن إلا امتداداً لشخصية أبيه الزعيم الديني الزاهد المتصوف والمشارك فيما يعرف بالميثاق الإسلامي في تلك الحقب من الزمان.
ولي مع أبي محطاتٌ ومحطات.. فعندما كنت صغيرةً، على عكس الصغار الذين (يهدهدهم) أهلهم ويتغنون لهم بـ(النوم تعال سكت الجهال)؛ كان أبي يهدهدني هو وخالي الشهيد (شمس الدين الأمين) بـ(طايرة طيري.. بي سرعة بينا إلى فقيري.. يا مجاهدين إنتو جاهزين.. أيوه جاهزين… الخ) أو على (يلا نفارق الحلة.. نجاهد في سبيل الله). هذا إن وجدني أبي مستيقظةً أو على وشك النوم بعد انتظار مرهقٍ لمجيئه من العمل في ساعاتٍ متأخرةٍ من الليل، (حيث كان يعمل في الاتحاد الإسلامي في أواخر التسعينيات)، هذا إن لم أكن نائمةً حقاً!
وساحات الجهاد، تشهد لأبي بجهاده الصادق، وليس جهاد الرياء، فخرج مجاهداً في سبيل الله مدافعاً عن الدين والوطن، أذكر ذات مرةٍ أن وجدت خواطر له كان يكتبها، مهنئاً فيها أصدقاءه من الشهداء إن رُزقوا بالشهادة التي كثيراً ما تمنّاها وحلم بها ولم يُرزقها.
في حياتي كلها، أحسبُ أن أبي أخذني مرتين فقط للحديقة! كنت أحسد تلك الأسر التي تنعم بأوقات أسريةٍ خاصة في آخر الأسبوع؛ حيث يخرجون للتنزه في الحدائق والمتنزهات برفقة آبائهم، ولكن أبي يخرج آخر الأسبوع في تطوافٍ إلى الولايات مستغلاً كل ما يجده من وقت، لا أتذكر أن أبي يوماً ما كان له وقت فراغ! حتى عندما يجد فراغاً يذهب سائحاً مع الشيوخ والطرق الصوفية وأهل الذكر، وحينما تحتجّ أمي يرد عليها قائلاً قولَ الله تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)، وتمثّل هذه الآية دائماً شعاراً له.
كبرتُ قليلاً، وفي (أواخر التسعينيات وبدايات الألفينيات- أي عقب المفاصلة)، حرمتُ من أبي لشهورٍ، بعضها متواصلة وأخرى متفرقة، لا أستطيع أن أصف تلك السنين إلا بالعِجاف! كيف لا وأنا لم أشبّع عينيّ برؤية أبي أياماً وشهوراً! لا أكاد أذكر في تلك الفترة أن أبي شهد لي عاماً دراسياً كاملاً من أوله إلى آخره لسنوات!
عمل أبي بعد ذلك في وظائف محصورة في العمل الفئوي (طلاب – شباب)، وأسس لها أساساً وقواعد متينةً، فكما تقول لي أمي دائماً إنها لاحظت أن خطط عمله كانت دائماً خططاً إستراتيجية طويلة المدى يحصد ثمارها غيره لاحقاً.. على عكس بعض الأشخاص الذين يسعون دوماً لتحقيق أهداف صغيرة قصيرة المدى هنا وهناك حتى يقال إنهم أنجزوا الكثير. وذكرت أمي هذا الحديث مبرهنة على ذلك ومستندةً إلى ما تحفظه لأبي وتؤرشفه من وثائق ومستندات وخطط عمل وأجندة اجتماعات، بل وحتى بطاقات وديباجات حضور المؤتمرات المحلية والعالمية على مر السنوات!
عملُه بقطاع الشباب، جعله يدرب شباباً باتوا اليوم قادرين على تدريب غيرهم على القيادة والريادة. وشهد له الكثير بذلك، فقد صنع نسيجاً متماسكاً من الشباب الواعي والمنفتح على العالم بإقامته ملتقيات عالمية وغيرها من الأنشطة. فكان مدركاً لأهمية الشباب وأن القاعدة الشبابية هي أساس قوي لأي حزب كان.
ولمّا كان تمكين الإسلام والحكم الإسلامي في السودان هو الشغل الشاغل لأبي، فقد بذل أقصى ما أمكن من منبره (التعبئة السياسية) لإنجاح العملية الانتخابية، وقد كان.
ولأبي نظرةٌ ثاقبة للمستقبل وتنبؤاته لا تخيب، ويدرك ذلك الكثير من زملائه، بل وحتى بعض القادة السياسيين، تحديداً أولئك الذين لم يلقوا بالاً لآرائه، وأدركوا صحتها فيما بعد.
أتساءل.. أين ذلك الشخص الذي كتب يوماً ما، عن غياب التعامل المؤسسي والدبلوماسي لدى والدي..؟! أود فقط أن أطلب منه أن يطّلع على ما قام به أبي في محطته الأخيرة (ليبيا).. وأسأله.. هل أدركت حجم علاقاتنا الدبلوماسية بليبيا، كيف أضحت اليوم؟! ألم تشاهد أو تسمع في وسائل الإعلام– الشاهد على ذلك- دعم الليبيين للسودان وإرسالهم المساعدات والإعانات الإنسانية التي استمرت الطائرات في نقلها لأسابيع دعماً لإخوتهم من متضرّري السيول؟! وقبلها لأبي كرشولا؟! فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور!
كانت محطة ليبيا هذه، رحلة جهادية أخرى تضاف لأبي؛ فالعمل في ليبيا في مثل هذا الوقت وهذه الظروف، لعَمري يرقى إلى مرتبة الجهاد لما تشهده ليبيا من صراعات وانفلات أمني رهيب! ولكن، هل عُرف أبي يوماً، إلا وهو دائماً رجل المهمات الصعبة؟!
غيرة أبي على الإسلام، لا أعتقد أن كثيراً من الرجال اليوم يحتفظ بها! والله ما شهدت أبي يوماً، في غاية الحزن والأسى، كما شهدته حينما كان متابعاً للأحداث المصرية الأخيرة، كنت أنا وهو طيلة شهر رمضان نتابع بشغف إخواننا المسلمين في ساحة (رابعة العدوية) على شاشة التلفاز، حتى أن والدتي سمّت تلك الغرفة التي نشاهد فيها التلفاز بـ(غرفة رابعة). وبلغ حزننا وتأثرّنا ذروته عندما شاهدنا المجازر في ميداني (رابعة) و(النهضة) وغيرهما من ميادين مصر، كيف لا و(من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)..!
كثيرٌ منكم لا يعلم عن حياة أبي الاجتماعية، تأكدوا أنه ليس بمختلف عن الرجل السوداني، الكريم، الشهم، (حلال العُقد) الذي لا يخيّب من جاءه سائلاً.. كنت أود أن أخبركم قليلاً عن فعل أبي للخير لكنّي أخشى أن أفسده، فليس أبي بالذي يحب أن ينفق أو يتصدق نهاراً، وليس بذلك الذي يمتن بما أنفق. أسأل الله أن يتقبل منه كل ما يقوم به تجاه أهله وكل من سأله.
لم أعرف دوافع أمي، عندما كانت تأخذني لدار النشر، والدار السودانية للكتب في الإجازات الصيفية لأشتري كتب اللغة العربية، النحو والصرف والبلاغة والشعر، وكتب الفلسفة، بل وامتلاكي أكثر من سلسلة من عيون الكتب وأنا في مرحلة مبكرة من التعليم (الخامس والسادس – أساس)، وكان من هم في عمري يقرأون (عبير) وروايات “أجاثا كريستي”، ولم أدرك كذلك ما دفعها لتأتي لي بالأستاذ “مأمون الشريف” عند التحاقي بالمرحلة الثانوية 2009م حتى يدرسني اللغة الإنجليزية، تحديداً المصطلحات الدبلوماسية وفن التعامل! اليوم فقط أدركت، أنها أعدّتني ليومٍ مثل هذا لآتي الآن وبقلمي هذا أكتب وأشهد لأبي، الذي لا يعلم بهذه الخاطرة التي أكتبها لكم، حتى لحظة قراءتكم لها.
ألم تلاحظوا، إشاراتي الدائمة لوالدتي؟! لا عجب!! فهذا خير شاهدٍ على أن أبي طيلة حياته وجل أوقاته حتى الخاصة منها، قد انشغل فيها عنّا، بشؤون الإسلام والمسلمين والعمل العام، وتقديم المصالح العامة على الخاصة!!
كنت، ولا تزال، وستظل يا أبي، متمسّكاً بمبادئك، صادحاً بالحق، مجاهراً به؛ ولو كلفك ذلك (حريتك) أحياناً، كما في زمنٍ مضى، أو (إقصاءك) من منابر الرأي واتخاذ القرار في أحايين أخرى، ولكنني موقنةٌ بأن العطاءَ سيستمر، وتستمر الرسالة.