رأي

المثقفون والسلطة في مصر والسودان (3)

عندما أراد الإخوان تغيير الوضع ولو قليلاً بإضافة تنظيمهم إلى صورة المشهد السياسي لم يجدوا حماساً في الستينيات. على أن الطريقة التي تعامل بها الإخوان مع نظام عرف كيف يتعامل مع الظروف، ويستفيد من التوازنات العالمية لعبت دوراً، وعندما جاء الإخوان بأفكار تختلف عن كل الذي حدث في الماضي، لم يجدوا حماسة ولم يحسنوا تقديم أنفسهم، كان لابد لهم أن يضعوا في اعتبارهم أن الثورة لها الكثير من الإيجابيات التي يمكن البناء فوقها، وأن السلبيات كان بالإمكان إزالتها دون استقرار الجماهير التي هللت للثورة، حيث لم يكن في الإمكان تراجع مصر عن المكانة الإعلامية التي حصلت عليها، ولم يكن بالإمكان إقناع الجماهير أن كل ما سبق خطأ يجب التراجع عنه، حتى السلبيات كان من المستحيل التراجع عنها أو الإيحاء أنها تعيش آخر أيامها، وأن القادم مختلف تماماً عما سبق، إذ لم يتخيل أحد أن مصر ستتخلى عن المكانة الإعلامية التي حصلت عليها والتي جعلتها زعيمة الدول العربية كلها. لقد أصبح التلفزيون المصري بمثابة (هوليود) الدول العربية، والإذاعة المصرية وتمثيليتها ونجومها أصبحوا هم الذين يأسرون المستمع ببرامجهم ومسلسلاتهم. وأضحى نجوم ونجمات السينما هم الذين يفخر بهم كل العالم العربي أمام الأوروبيين.
الإخوان المسلمون لا شك لهم نواياهم الطيبة، لكنهم لم يحسنوا تقديمها، ولم يختاروا القالب المناسب كما أحسن نظام يوليو تقديم نفسه.
بعض المتطرفين نهجوا التغيير فأرادوا إصلاح المجتمع كله خلال يوم واحد.. وخرجت الكثير من عبارات التطرف التي استفاد منها النظام في الدعاية المضادة وتخويف الناس.. صحيح أن الأصوات النشاز كانت قليلة، لكن هذه الأقلية كانت الأعلى صوتاً، واستطاعت أن تقنع الناس أنهم هم البديل إذا سقط النظام، فخاف الذين اعتادوا على حياة في ظل الأناشيد الثورية والمسلسلات الكوميدية أن يأتي نظام يلغي ما اعتادوه ويعيدهم إلى عهد يشبه عهد الملكية، بالإشارة إلى دولة الخلافة، ورغم أن “عبد الناصر” أقنع الناس أن القومية العربية لا تعني إلغاء المصرية إلا أن الإخوان حاولوا الإيحاء أن النظام القادم سيلغي (المصرية) عن الثورة ويهتم بالإسلامية، ولهذا تمسك الناس بالنظام الذي اعتادوه والذي لا يغير من جوهر الحياة ويبقي على كل الانتصارات التي تحققت.. الإخوان رغم صدق نواياهم اختاروا الوسيلة الإعلامية الخطأ عكس ثورة يوليو.
ربما يفسر هذا العمود بعض ما يجري في مصر حالياً، فالنظام الذي رأسه رجل عسكري يرى نفسه خليفة الزعيم “عبد الناصر”، والشعب في مصر والسودان ليس له تحفظات على تولي العسكريين للسلطة. لقد أعطت الفترة الطويلة نسبياً لنظام يوليو شرعية لكل النظم العسكرية في مصر، فأصبح المصريون ينظرون إليه باعتباره نظاماً مقدساً يحرمون الخروج عليه، وضباط الجيش في السلطة يتصرفون باعتبارهم نالوا الشرعية من نظام يوليو، ويستغربون إذا لم يعطهم أحد احتراماً باعتبارهم من رجال الجيش الذين أنقذوا مصر من نظام ملكي فاسد.
أدى هذا الاعتقاد إلى تمتع النظام العسكري بما يشبه القداسة، والآن كبار المثقفين في مصر والسودان تعاملوا مع هذا النظام باعتباره صاحب قداسة. وهذه القداسة زادت بعد تصدي الجيش للإسرائيليين خلال حرب الاستنزاف، بل إن الشعب في السودان خرج في فترة من الفترات يهتف ضد الإخوان المسلمين عندما حاولوا تدبير انقلاب ضد “عبد الناصر”، وصدق كل ما ذكرته وسائل الإعلام المصرية عنهم، بل خرجت تظاهرات في أواسط الستينيات تأييداً لأحكام الإعدام التي صدرت ضد قيادات الإخوان. إذن اختلف موقفا الشعبين من الانقلابات العسكرية منذ أن أصبح الجيش هو الوحيد الذي يحمي السلطة ضد العدو الخارجي والمؤامرات الداخلية.
عندما جاء “السادات” ترسخ مفهوم تقديس العسكريين، وقد أكد “السادات” اعتماده على رجال الجيش وحدهم عندما اختار نائباً كان هو أحد ضباط الجيش. وبذلك، لم يعد هناك أي أمل للمدنيين في الوصول إلى السلطة ولو عبر انتخابات ديمقراطية حرة إذا أصبح الجيش وحده الذي يمنح الشرعية، ولم تتأثر مكانته بعد حادثة المنصة، بل كان ذلك الحادث سبباً لكي يزيد الجيش من نفوذه وسط تصفيق وإعجاب الجماهير، فأصبح رجال الجيش في كل مفاصل السلطة، فهم سفراء ومديرو شركات، وحتى المؤسسات التعليمية أصبح للعسكريين وجود بعد التسهيلات التي قدمتها لهم السلطة، وزاد نفوذهم إلى درجة أن كل من يود أن يرفع قدره بين الناس فليذكر أنه من أسرة أحد الضباط الكبار. وكثر الحديث عن تأثير السلطة المطلقة على العسكريين، وكيف أن الشخص إذا أراد إجازة أي عمل فليقل إن أحد العسكريين طرف، وعندما أراد “حسني مبارك” اختيار أحد لخلافته كان يكفي أن يقال: (لقد اختاره الضابط “حسني مبارك”).
هذه القداسة غير المعلنة هي التي تحرس الآن النظام في مصر، فهو في نظر الكثيرين امتداد لنظام “عبد الناصر”، ولأن “عبد الناصر” نال قداسة وأيدته جماهير دون إكراه في الكثير من المناسبات آخرها عندما استقال، إذ خرجت كل جماهير الشعب المصري من أسوان إلى الإسكندرية تهتف مطالبة ببقائه، وكان هذا الخروج الجماعي دون حشد، وهذا يفسر بعض تفاصيل المشهد الآن، إذ وجد المثقفون أنفسهم في عزلة، حيث كل الشعب إلى جانب ما يعدّها سلطة شرعية منذ 1952م، وتأكدت شرعيتها بدفاعها عن مصر وتعامل العالم معها باعتبارها مالكة لمفاتيح السلطة.
الشيء الطبيعي الآن أن يقاوم هذا النظام أية محاولة لإبعاده عن السلطة، لأنه اعتاد أن يكون وحده على رأسها دون منازع لشرعية مستمدة من انقلاب “عبد الناصر” في يوليو 1952م، وأكدتها المواجهات مع العدو الإسرائيلي واقتناع المصريين أن العسكر وحدهم هم الضمان للاستقرار في مصر.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية