رأي

المثقفون والسلطة في مصر والسودان (2)

السؤال الذي يفرض نفسه الآن، لماذا احتفظت الثورة المصرية بصورتها المنتصرة دائماً رغم الانكسارات والنكسات والهزائم؟..الإجابة تبدأ بالإشارة إلى الإنجاز الكبير الذي حققته الثورة من قضاء على الملكية والإقطاع، وإعلان إلغاء الألقاب والطبقية، وفتح الباب لأبناء الفلاحين لينالوا أعلى الدرجات العلمية، وبعد أن كانت الدرجات الجامعية محرمة عليهم أصبح شيئاً عادياً أن نجد ابن فلاح قد أصبح أستاذاً جامعياً، هذه إنجازات قد نراها نحن بمنظار اليوم كشخص عادي، ولكنها لم تكن كذلك في مطلع الخمسينيات..إضافة إلى ذلك إنشاء السد العالي والتوسع الزراعي، أضف إلى ذلك أن كاريزما “عبد الناصر” لعبت دوراً كبيراً في إقناع الجماهير بمكانته المحلية والعالمية، وجاءت أول مواجهة له مع القوى الاستعمارية لصالحه، لقدرته على الاستفادة من توازن القوى العالمية آنذاك، فتدخل الاتحاد السوفيتي لصالحه في أزمة السويس وضمن انسحاب بريطانيا، مما أعتبرهانتصاراً لـ”عبد الناصر” ورسخ مكانته الضخ الإعلامي الموجه حيث استغل النظام تعاطف الجماهير معه وألفت الأغاني والأناشيد في مدحه والإشادة به، ولم يعد أحد يذكر أي حسنة للنظام السابق، بل العكس امتلأت الصحف بمذكرات كثيرة عن سلبيات النظام الملكي.. وكان نشيد مثل (الله أكبر) يزيد من حماس الجماهير للنظام.
وقد لعب مشروع تطوير الجيش المصري دوراً كبيراً في زيادة شعبيته بين جنود الجيش المصري، ولمس الناس الفارق بين الجيش البدائي الذي كان قبل الثورة والذي بنته الثورة.
وساعدت المواجهة المستمرة مع إسرائيل على حرص الناس على تقوية النظام باعتباره صمام الأمان ضد التوسع الإسرائيلي.. وحتى اليوم يتعامل الناس مع الجيش باعتباره حامي الوطن ضد مخاطر كبرى، ولا توجد مؤسسة مدنية واحدة يمكن أن تحل محله، فلم يعد لأي تنظيم قيمته أمام الجيش، فاعتبر الناس كل المؤسسات الحزبية بدون فائدة إذا قورنت بالجيش، فعملياً لم تكن مؤسسة مدنية تقدر على إحداث كل هذا التغيير في الجيش وتسليحه، حيث دخلت أسلحة جيدة إلى الخدمة، فأصبح لأول مرة لمصر سلاح طيران حديث لا يقل عن سلاح الطيران الإسرائيلي.
وتطورت المؤسسات المدنية لدرجة أن الإذاعة المصرية أصبحت تذيع لمدة (24) ساعة، وتنافس الكتاب في تقديم الأعمال التي تؤكد تأييدهم للثورة دون خوف من محاسبة، وكان لهذا التأييد من مختلف قطاعات الشعب دور في أن يحجم الجميع عن انتقاد النظام، فزاد النظام من نفوذه ومكانته مستغلاً تعاطف الجماهير معه، وأصبحت الأغاني كلها مع الثورة وحتى الزعيم “عبد الناصر”، أضحت الأناشيد كلها وكل المناهج المدرسية باتجاه واحد، وظل هذا الوضع مستمراً لأكثر من عشرين عاماً.
ولهذا عندما أراد الإخوان تغيير هذا الوضع ولو قليلاً بإضافة تنظيمهم إلى صورة المشهد السياسي لم يجدوا حماساً في الستينيات. على أن الطريقة التي تعامل بها الإخوان مع نظام عرف كيف يتعامل مع الظروف، ويستفيد من التوازنات العالمية لعبت دوراً، وعندما جاء الإخوان بأفكار تختلف عن كل الذي حدث في الماضي، لم يجدوا حماسة ولم يحسنوا تقديم أنفسهم، كان لابد لهم أن يضعوا في اعتبارهم أن الثورة لها الكثير من الإيجابيات التي يمكن البناء فوقها، وأن السلبيات كان بالإمكان إزالتها دون استقرار الجماهير التي هللت للثورة، حيث لم يكن في الإمكان تراجع مصر عن المكانة الإعلامية التي حصلت عليها، ولم يكن بالإمكان إقناع الجماهير أن كل ما سبق خطأ يجب التراجع عنه، حتى السلبيات كان من المستحيل التراجع عنها أو الإيحاء أنها تعيش آخر أيامها، وأن القادم مختلف تماماً عما سبق، إذ لم يتخيل أحد أن مصر ستتخلى عن المكانة الإعلامية التي حصلت عليها والتي جعلتها زعيمة الدول العربية كلها. لقد أصبح التلفزيون المصري بمثابة (هوليود) الدول العربية، والإذاعة المصرية وتمثيليتها ونجومها أصبحوا هم الذين يأسرون المستمع ببرامجهم ومسلسلاتهم. وأضحى نجوم ونجمات السينما هم الذين يفخر بهم كل العالم العربي أمام الأوروبيين.
الإخوان المسلمون لا شك لهم نواياهم الطيبة، لكنهم لم يحسنوا تقديمها، ولم يختاروا القالب المناسب كما أحسن نظام يوليو تقديم نفسه.
بعض المتطرفين نهجوا التغيير فأرادوا إصلاح المجتمع كله خلال يوم واحد.. وخرجت الكثير من عبارات التطرف التي استفاد منها النظام في الدعاية المضادة وتخويف الناس.. صحيح أن الأصوات النشاز كانت قليلة، لكن هذه الأقلية كانت الأعلى صوتاً، واستطاعت أن تقنع الناس أنهم هم البديل إذا سقط النظام، فخاف الذين اعتادوا على حياة في ظل الأناشيد الثورية والمسلسلات الكوميدية أن يأتي نظام يلغي ما اعتادوه ويعيدهم إلى عهد يشبه عهد الملكية، بالإشارة إلى دولة الخلافة، ورغم أن “عبد الناصر” أقنع الناس أن القومية العربية لا تعني إلغاء المصرية إلا أن الإخوان حاولوا الإيحاء أن النظام القادم سيلغي (المصرية) عن الثورة ويهتم بالإسلامية، ولهذا تمسك الناس بالنظام الذي اعتادوه والذي لا يغير من جوهر الحياة ويبقي على كل الانتصارات التي تحققت.. الإخوان رغم صدق نواياهم اختاروا الوسيلة الإعلامية الخطأ عكس ثورة يوليو.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية