الديوان

(حنتوب).. مدرسة حكمت السودان وكتبت تاريخه..!!

ترقد في هدوء وسكينة تتوشح بدثارها الأخضر، وبقامتها الحسناء تتمدد محاذية النيل تغازله في مودة وقد جمع بينهما عشق بحكم الجوار الأزلي، وقد اختار أولياء أمرها أن تكون بعيدة ضاربين عليها العزلة لدواعٍ في بالهم، فصمدت وما تزال في ريعان شبابها فتية رغم تقادم السنين عليها ورغم تعاقب مرتاديها بكافة سحناتهم وألوان طيفهم السياسي والاجتماعي.
مدرسة (حنتوب) الثانوية بنين (كلية التربية جامعة الجزيرة) الآن، تقف ممتشقة كما لو أنها شيِّدت حديثاً، إذ ما زالت مبانيها بذات الأمكنة وذات المسميات وخضرتها النضرة تكسي ميادينها على مد البصر. تحوي تاريخاً حيوياً يجسد علامة فارقة في تشكيل الحاضر كون كل خريجيها هم قادة الطيف السياسي الحاكم والمعارض، ليس ذلك فحسب بل عدد مقدر من نجوم المجتمع في ضروب الفن والأدب والعلم كافة. كانت سوداناً مصغراً جمعت طلاباً من كل أنحاء البلاد واستوعبت جنسيات أجنبية من دول الجوار.
أخطر ثلاثة من قادة السياسة والفكر
تأسست مدرسة (حنتوب) في العام 1946م، إبان الاستعمار الانجليزي المصري، وكانت الأراضي التي أسست فيها المدرسة مملوكة للشيخ «عبد الباقي ود الكارب» تعمل بنظام الداخليات، وعددها ثماني داخليات مسماة بأسماء تاريخية وهي (المك نمر – عثمان دقنة – دينار – الزبير – ضيف الله – أبو لكيلك – النجومي – أبو عنجة) شرقية وغربية، ثم زاد عددها الآن. (حنتوب) التي بناها المستعمر في النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي على نسق معسكرات الجيش في عزلة عن ضجة المدينة وصخبها، كان نظامها الإداري مؤطراً بحدود سياسية ويتكون من عدة إدارات تكرس للمنافسة.
ومن صلب (حنتوب) تخرج عدد مقدر من الرموز الوطنية في المجالات كافة، وكان لهم القدح المعلى في بلورة الحاضر والمستقبل، بتقلدهم مناصب عليا في كل ميادين السياسة والطب والقانون، أسماء عريقة وذائعة الصيت، وما أن تذكر (حنتوب)، إلا ويذكر أسم الرئيس السابق «جعفر نميري» و»حسن الترابي» والسكرتير العام لـ(الحزب الشيوعي) «محمد إبراهيم نقد» (أخطر ثلاثة من قادة السياسة والفكر والجدل في السودان).. وسبق «نقد» «الترابي» إلى (حنتوب) في دفعتها الثانية عام 1947م.
أول ناظر سوداني للمدرسة
ومن خريجيها أيضاً البروفيسور «الجزولي دفع الله»، والمقدم «بابكر النور» الذي عُيِّن رئيساً في انقلاب الشيوعيين في يوليو 1971م وحاكم إقليم دارفور السابق ورئيس التحالف الفيدرالي المعارض «أحمد إبراهيم دريج»، وعضو مجلس رأس الدولة السابق «ميرغني النصري»، وشيخ الصحافة السودانية «محجوب محمد صالح»، والصحافي والمفكر «عبد الله زكريا»، وغيرهم.
و(حنتوب) وحدها هي التي دفعت بثلاثة من طلابها ليصبحوا رؤساء القضاء بالسودان، هم «خلف الله الرشيد» و»فؤاد الأمين» و»عبيد حاج علي»، ودفعت بأربعة آخرين تقلدوا منصب وزير العدل هم «حسن الترابي» و»عبد السميع عمر» و»عبد المحمود صالح» و»عبد العزيز شدو». وكذلك أربعة من خريجيها ليصبحوا مديرين لـ(جامعة الخرطوم)، هم البروفيسور «علي فضل، عمر بليل، والتنقاري، وعبد الملك النعيم)، وكذا البروفيسور «حسن مكي» الخبير في الشأن الأفريقي.
أما الأستاذ المرحوم «أحمد بشير العبادي»، فقد شغل فيها مساعد ناظر قبل أن يعود إليها مرة أخرى ناظراً للمدرسة (مسودناً) الوظيفة لأول مرة في تاريخ السودان بديلاً عن ناظرها الشهير «براون».
«غردون» قضى طفولته بـ(حنتوب)
معلومات مهمة من مصادر عدة استوقفت (المجهر) وهي توثق لمدرسة (حنتوب) منها ما نشر في صحيفة (الإمارات اليوم) وورد فيه: يقول مؤلف كتاب (حنتوب) الأستاذ «النور موسى» (إن مستر «براون» صاحب البصمات في الشخصية السياسية السودانية وعاشق (حنتوب) ، ربى أبناءه فيها، ومنهم «غردون» براون» رئيس وزراء (بريطانيا) السابق، الذي عاش طفولته بالمدرسة، وعند تعيينه وزيراً للخزانة في حكومة «توني بلير» الأولى بعثت رابطة خريجي (حنتوب) بخطاب تهنئة بالتكليف لـ»غردون» و»براون». وكان منزل «مستر براون» في (حنتوب) هو المنزل رقم (10) وتم ترقيمه هكذا على غرار رقم مقر رئيس الوزراء البريطاني في شارع (داوننج) بـ(لندن).
لم يقتصر إبداع الذين خرجوا من رحم (حنتوب) على السياسيين والمهنيين فقط، بل أنجبت فنانين وشعراء أيضا منهم الشاعر «حميدة أبو عشر» (نجار المدرسة) الذي كتب (وداعاً روضتي الغناء). ومن الشعراء الذين ارتبطت أسماؤهم بـ(حنتوب) الشاعر ا»لهادي آدم» الذي عمل فيها أستاذاً لـ(الغة العربية) وغنت له «أم كلثوم» قصيدته (أغداً ألقاك)، وأيضاً «محمد عوض الكريم القرشي»، والشعراء «صلاح أحمد إبراهيم» والنور (حنتوب الجميلة) و»عثمان أبكر» و»محمد عبد الحي».
طلاب أجانب
وامتد عطاء (حنتوب) لخارج حدود الوطن ولنضم منضوياً تحت لوائها نخبة من الأشقاء العرب والأفارقة، والذين ساروا بخطى سريعة دون أن يشق لهم غبار وبلغوا مناصب عليا في بلادهم كأبناء (حضرموت) و(اليمن) و(الصومال) و(أثيوبيا)، ويكفي أن أول سفير للصومال بالسودان «عبد الرحمن محمد» كان من خريجيها. وكذا مرشح أحزاب اللقاء المشترك في الانتخابات الرئاسية 2006م المهندس «فيصل بن شملان» (رحمه الله) الذي كان قد ابتعث للدراسة في السودان بمدرسة (حنتوب) الثانوية.
وقال «الترابي» في تذكر «نقد» لـ(موقع الجزيرة) إن الإنجليز أنشئوا المدرسة في الريف بعيداً عن المدن ليطبعوا طلابها على لسانهم وليخرجوا جيلاً جديداً منبتاً، لكنه و»نقد» كانا ممن رفض ذلك التطبيع وجمعهما إطار الوطنية. وكان «نقد»، المعروف بحسن الصوت والغناء، قد اختار الانتماء لـ(الحزب الشيوعي) في (حنتوب)، بينما تأخر «الترابي» في الانتماء للإسلاميين حتى دخوله كلية الخرطوم الجامعية (جامعة الخرطوم الحالية)، لأنه اعتقد أن إسلاميي (حنتوب) كانوا (ناس ساكت)، أو كما قال، وانحصر همهم في ضبط أخلاق الطلاب حتى الرئيس «نميري» شكا منهم لتعنيفه للبسه رداءً قصيراً للعب كرة القدم. فقال: وهل عندكم زي شرعي للعبها؟
في (حنتوب) مش حا نتوب
ثمة مقولة شاعت لدى مواكبي عهد السيد «إسماعيل الأزهري» الذي كان معلماً وقتذاك، وأراد المستعمر إبعاده عن العاصمة لأنه يشكل خطراً سياسياً، فتم نقله إلى مدرسة (حنتوب) الوليدة، فقال قولته الشهيرة (في (حنتوب مش ح نتوب).
انتهت (حنتوب) المدرسة وتحولت الآن إلى (كلية التربية) بالجزيرة، وطوت بذلك نصف قرن من العطاء، كتبت فيه تاريخ السودان الحديث.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية