قصتي مع "الكابلي".. في عز الليل
في الستينيات كانت معرفتي به، قبلها كنت من المعجبين بصوته وأغنياته، وكنت تلميذاً بالمرحلة المتوسطة بمدرسة الدويم الأهلية.. وكنت أشكل ثنائياً غنائياً مع صديق الطفولة سعادة المستشار القانوني الأستاذ “عبد الحي حاج صالح” الذي يعمل بدولة البحرين – رد الله غربته – وكثيراً ما كنا نعتلي مسرح المدرسة في الجمعيات الأدبية يوم (الاثنين).. نغني (أين من عينيَّ هاتيك الليالي يا عروسَ البحرِ يا حلمَ الخيالِ) للشاعر المصري المهندس “علي محمود طه” ونغني (شذى زهرٍ ولا زهرُ فأين الظلُّ والنهرُ) للشاعر الأديب المفكر المصري “عباس محمود العقاد” وأغنيات أخرى “للكابلي” بالطبع من بينها (ضنين الوعد) لأستاذنا الراحل المقيم الشاعر العظيم “صديق مدثر” له الرحمة والمغفرة، اجتمعنا مجموعة من التلاميذ محبي الغناء الجميل أعضاء الجمعية الأدبية وجمعية الموسيقى.. كنا نتصيد أخباره عبر مجلة (هنا أم درمان) المتخصصة في أخبار الإذاعة والفنانين والشعراء، شأننا شأن المعجب والفنان وكان يشاركه هذه المزية الراحل المقيم صديقي “زيدان إبراهيم” العندليب الأسمر له الرحمة والمغفرة والذي لم يكن له إنتاج كثير في ذلك الحين لحداثة دخوله عالم الغناء، و”زيدان” نفسه كان معجباً بـ”كابلي” و”وردي” و”إبراهيم عوض” الرحمة والمغفرة للذين رحلوا عن دنيانا، وخلفوا لنا أغنيات من ذهب.. فيا سبحان الله.. اشتركنا في قواسم مشتركة دون اتفاق أو ترتيب، وكنا نطرب حتى الثمالة لـ(داوي ناري والتياعي قفْ تمهَّل في وداعي.. يا حبيبَ الروحِ هب لي بضع لحظاتٍ سِراع) والأغنية من بواكير وألحان “زيدان” الرائعة، ومن كلمات الشاعر الطبيب المصري “إبراهيم ناجي” تخيلوا اهتمامتنا ونحن صغار.. الشعر والفن والأدب والرسم والرياضة بأنواعها! ترى هل اهتمامات صغارنا ترقى لتلك الاهتمامات التي كنا ننشغل بها؟ وهل صدقت مقولة (إن لكل زمان رجاله وأبطاله)؟
المهم.. نحن كنا أسعد حظاً من أبنائنا الآن.. تخيلوا في ذلك الزمان يكتب كاتب مقالاً ينتقد فيه “الكابلي” نقداً هداماً وصل حد السباب الشخصي، وينشر المقال في صحيفة (الصباح الجديد) التي كانت واسعة الانتشار، ورئيس تحريرها الأستاذ الشاعر “حسين عثمان منصور” والصحيفة كانت تفرد حيزاً مقدراً للفنون بشكل عام لاسيما فن الغناء والموسيقى، وكان أستاذنا الشاعر “النعمان على الله” محرراً لصفحة الفن في تلك الجريدة يومها غضب غضباً عارماً على ما كتبه كاتب المقال في حق “الكابلي” الذي نكن له إعجاباً ومحبة.. عقدنا اجتماعاً والصحيفة بين أيدينا وأصدرنا قراراً بضرورة الرد بمقال في نفس الصحيفة، وكلفني الأصدقاء بكتابة المقال، وفي اليوم التالي عصراً بعد الدراسة اجتمعنا لنجيز المقال توطئة لإرساله للصحيفة للنشر، واقترح أحدهم أن نرفق صورتي بالمقال، وذلك ما فعلنا بعد أن وضعنا طابع البريد وأودعنا الخطاب صندوق البوستة، وبالمناسبة أيضاً كان الشاعر العظيم “مصطفى سند” له الرحمة – أحد موظفي البوستة بمدينة الدويم، وكنا أيضاً نلتف حوله حينما أدركنا أنه شاعر لعدد من أغنيات الصديق الباشمهندس الفنان الملحن الأستاذ “صلاح مصطفى” والذي كان يعمل أيضاً مهندساً للبريد والبرق.. بعد أسبوع تحلقنا بالقرب من مكتبة عمي المرحوم “غانم محمد أفندي” الذي كنت أعمل معه بالمكتبة أوزع الجرائد والمجلات والكتب للمشتركين من أساتذة معهد التربية ببخت الرضا ذلك المعهد العريق بمدينة الدويم والذي درسنا فيه المرحلة الأولية ولن ننسى أياماً مضت مرحاً قضيناها!
وكانت المفاجأة أن ينشر أستاذنا “النعمان علي الله” المقال كاملاً، وقد كان المادة الرئيسية في جريدة (الصباح الجديد)، الواسعة الانتشار! يومها كان حدثاً لمجموعتنا ولأساتذتنا ولمدينة الدويم إذ قرظ الكثيرون وأعجبوا بالمقال لاسيما المعجبين “بالكابلي” إذ شفيت غليلهم بردي.. والمدهش حقاً أن الأستاذ “كابلي” أرسل لي رداً رقيقاً بعنوان المدرسة بخطاب مسجل بعلم الوصول كان أيضاً حدثاً لمجموعتنا، والحادثة تلك كانت طريقاً لمشاركة معظمنا بمراسلة الصحيفة، ونحن في معية الصبا.. يومها كانت الساحة الأدبية بمدينة الدويم تعج بالنشاط الإبداعي والمسرحي، والساحة الثقافية بعاصمة البلاد الوطنية أم درمان تمور بالمنتديات الثقافية التي كنا نقتفي آثارها عبر الصحف، وكان “كابلي” عضواً في ندوة الأديب المرحوم “عبد الله حامد البشير” بحي البوستة بأم درمان.. وكنا نتابع باهتمام شديد ما يجري في أروقة الثقافة بالخرطوم.. وكنا ننتهز فرصة مجيئ الفنانين لسينما الدويم لنستمتع بغنائهم، ويومها السينما قد تخصص حفلين في ليلة واحدة، وكنا نحضر الحفلين ومن نجوم تلك الحفلات كان الراحل الدكتور “وردي” والعبقري الراحل “عثمان حسين” والراحل الفنان “أبو داؤود” والراحل “عثمان الشفيع” والرحل “محمد أحمد عوض” والراحلين المسرحيين “عثمان حميدة” (تور الجر) والراحل “محمود سراج” (ود أب قبورة) والراحل “إسماعيل”، وبالطبع المسرحي العظيم الراحل “الفاضل سعيد” وقد كان ينفرد بعرض مسرحية من مسرحياته والمدينة عن بكرة أبيها تحتفي بتلك العروض لاسيما وهي مدينة علم ونور وثقافة، وكان من إخواننا الكبار مولانا “عبد المحمود صالح” الذي حبب لنا كرة السلة ودراسة القانون.
وبالمناسبة كانت هنالك ستة مسارح بمعهد التربية ببخت الرضا شهدنا من على خشبتها الراحل رائد المسرح الأستاذ “الفكي عبد الرحمن” والأستاذ “الحوري” والموسيقار “الماحي إسماعيل” متعه الله بالصحة والموسيقي المرحوم “علي ميرغني” وكوكبة من الأساتذة الأجلاء وقفوا على تثقيفنا وتربيتنا وتعليمنا على رأسهم البروفيسور “أحمد الطيب زين العابدين” العالم الجليل ابن الدويم، وثلة من أساتذة كرام عشنا معهم ورأيناهم عن قرب منهم الأساتذة “مندور المهدي” – يرحمه الله – وما ذكرتهم على سبيل المثال. ومكاتب الدولة كانت تستوعب من تخرجوا في المرحلة المتوسطة من بينهم كان الفنان “الكابلي” الذي دخل الوسط الفني ملحناً وعرفته الإذاعة عبر عدد من فناني ونجوم الستينيات في الغناء من بينهم الرائع الراحل “أبو داؤود” والراحل الفنان “عمر الشريف” وآخرون، لكنه كان يقدم أغنياته في الصوالين الأدبية والجلسات الخاصة ومن تلك الصوالين بدأ في تثقيف نفسه فقرأ كل كتب الثقافة ودواوين الشعر، وفي فترة من فترات نشاطه انصب اهتمامه في الأدب الشعبي الغنائي وبدأ ينقب في هذا الضرب من فن، وتعرف على عدد من الرواة وحفظة تلك الأغنيات، وبدأ يكتب مقالاته وينتقي عدداً مقدراً من أغنيات التراث ليغنيها بصوته، وكان يقدم محاضراته في هذا الضرب من الفنون مشفوعاً بنماذج وشرح للمفردات الغريبة في دارجيتنا السودانية، ووثق تلك الأعمال بتقديمه برامج بالإذاعة القومية تصلح مرجعاً للدارسين في الموروث الشعبي، هذا إلى جانب تسجيله لأغنيات من تأليفه وألحانه وأدائه، وظل هاوياً عاشقاً لفن الغناء محافظاً على وظيفته في القضائية حتى تقاعد للمعاش ليصبح محترفاً للفن حتى أنشأ شركة تحمل اسمه لإنتاج ألبومات “الكاست” التي وجدت رواجاً من محبي فنه، كما أسهمت محاضراته في العديد من المنابر والجامعات خارج حدود الوطن باللغة الإنجليزية، ليصبح لاحقاً سفيراً للنوايا الحسنة بالأمم المتحدة، وأفرد للشعر الفصيح حيزاً مقدراً في إنتاجه الغزير منتقياً قصائد فصحى لشعراء من القدامى والمحدثين، ووثق بذلك للمتنبئ” و”أبي فراس الحمداني” ومن شعراء السودان العظماء غنى للمرحوم “محمد المهدي المجذوب” وللمرحوم “الحَسِين الحسن” والمرحوم “تاج السر الحسن” والمرحوم “صديق مدثر” وآخرين، ونال أكثر من دكتوراة فخرية من بعض الجامعات تقديراً وعرفاناً له في مساهمته في الثقافة السودانية.. تجاوزت شهرته حدود الوطن وحفظت بعض الشعوب العربية أغنياته، فالرجل يستحق هذه الحروف العجلى، بل يستحق سفراً كاملاً نقدمه للأجيال اللاحقة التي لم تعاصره.. والآن الدكتور “عبد الكريم الكابلي” بأمريكا في معية أسرته، وجاءت الأخبار تحمل أنه في كامل صحته والحمد لله، والمتوقع حضوره إلى أرض الوطن يحمل معه مفاجآت سارة لمعجبيه، فأهلاً بمقدمكم الجميل أيها الصديق، لكننا في شوق إليك وعلمنا أنك ستقدم قصيدتي القديمة الجديدة (عاشق بيحكي) والتي يتلهف صديقك محلن القصيدة وزميلك الأستاذ الموسيقار “محمد سراج الدين” يتلهف لسماعها تغنيها بالأوركسترا خاصة، بعد أن استمع وأنت تؤديها في بروفة تمت قبل سنوات في منزلك، فعوداً حميداً مستطاب أيها الفنان الرائع (وتلقى الزمن غيَّر ملامِحْنا وأنا الصابر على المِحْنَة).