تحقيقات

حكايات وقصص مؤلمة من سجن (الهدى) بأم درمان (2)

    بدأوا الاعتراف منذ الوهلة الأولى.. تحدثوا بكل ثقة وثبات وهم يسردون بداياتهم مع أول سيجارة (بنقو) وأول يوم إدمان!!.. ما هو المذاق وكيف كانت البداية، وما هي الأسباب التي قادتهم إلي المكوث بين جنبات (سجن الهدى) ليكونوا ضمن كشوفات نزلاء المخدرات… كان (ستَّتُهم) من الشباب اليانع جيء بهم إلى السجن، اختلفت أعمارهم وتنوعت قصصهم جراء دخولهم عالم الإدمان عندما غابت عقولهم من أجل الاستمتاع بنشوة زائفة، ومافيا (البنقو) والهروين، ظلوا يمعنون النظر والاستمتاع بتدمير طاقاتهم من أجل تجارة محرمة جعلت منهم تجاراً ومتعاطين ومروجين، وروايات البداية رغم اختلافها إلا أن الندم كان مسك ختامها، فلا أحد منا يستطيع معرفة قدره ولا حتى وسيلة اختياره، كما أنه ليس بمقدورنا تحديد طرقاتنا ولا إلى أين تسير وجهاتنا؟، نتخذ من عقولنا وسيلة نتلمس بها خطواتنا، نبتعد عن الشرور ونتجه إلى الخير بكلياتنا، فإن غابت عقولنا دمرت طاقاتنا.
 هشيماً تذروه الرياح
لم تكن تلك الاعترافات التي سردناها في الحلقة الماضية إلا تعبيراً عن ندم لا تمحوه سنوات السجن، إهدار أجمل سنوات العمر.. زمرة من الشباب استنطقناهم عن  كيفية الدخول إلى هذا العالم، بدأناها بصاحب الأحلام الذي يتمنى أن يحققها بالزواج والذرية، وتوقفنا عند (م ـ خ) فني الموبايلات الذي تبددت أحلامه بدخوله كلية الطب فتحول إلى النقيض تماماً، ذلك الشاب الذي ظل طيلة خمسة أعوام يجمع الأموال من تلك التجارة المحرمة، فكان حصاده هشيماً تذروه الرياح، ولم يعرف طعماً لما جناه، علاقته الطيبة مع أصحاب العمل وإخلاصه في تسليم المخدرات خلقت منه شاباً ذا سمعة طيبة يتهافت تجار (البنقو) على التعامل معه، ولكن دوماً للبدايات نهايات تؤول إليها، و(محدثي) كانت نهايته عبر مكالمة هاتفية من خفير أحد المخازن التي يتعامل معها عندما أفصح عن اسمه لضباط مكافحة المخدرات الذين قاموا بمداهمة المخزن والتحفظ على ممتلكاته، ومن ثم طلبوا منه الاتصال به وإبلاغه بتوصيل حمولة فما كان منه إلا الوصول مسرعاً لتوصيلها، ولكنه لم يجد سوى أفراد طاقم مكافحة المخدرات في انتظاره، ليطوي بذلك خمس سنوات من العمل في تجارة المخدرات ويفتح بدلاً عنها صفحة قوامها عشر سنوات من السجن داخل مدينة (الهدى) الإصلاحية، يداوي جراحاته بتلاوة القرآن الكريم وحفظه، آملاً أن يكون شفيعاً له للخروج من بوابة السجن دون عودة، خاصة بعد أن قضت لجنة جمعية القرآن الكريم وهي لجنة تخص أحكام المخدرات بالإفراج عن المتهمين حافظي كتاب الله قبل إكمال محكومتهم، ورغم قناعاته بعدم حرمة المخدرات، إلا أن (م ـ خ) يرفض العودة مجدداً لها حتى لا يكون مخالفاً للشريعة الإسلامية، ويطلق مناشداته لرئيس الجمهورية الإفراج عنه من واقع حفظه لأحد عشر جزءاً من القرآن الكريم ليقضي ما تبقى من محكومته (عامين ونصف) خارج أسوار السجن يسعى في مناكب الأرض يبتغي من رزقها الحلال ليُعيش زوجتيه، وينفق على أطفاله الخمسة.
إحساس بالندم
رغم اختلاف القصص وبداياتها تظل درجة الإحساس بالندم عالية جداً لدى جميع من جلسوا إليّ، والأمر يتعداه إلى من هم داخل (الزنازين)، إنه بالفعل مزاج بطعم الندم، (س ـ أ) عمره (47) عاماً ظل يتجرع الندم جراء مزاجه الذي زج به وشقيقه إلى هذا المصير… فبدايات هؤلاء الشقيقين بدت أشبه بقصص المسلسلات والأفلام التي نطالعها عبر الشاشات، عندما تصاب الوالدة بمرض الفشل الكلوي وتصبح بحاجة إلى عملية زراعة كلية، ولكن ضيق ذات اليد فتح الباب لأحدهم للاتجار بالمخدرات لكي يفي بالتزامات العملية، وما كان أمام محدثي سوى التعاطي خاصة أنها في متناول يده ولا يخسر معها مالاً، ولكنه لم يكن يعلم أنه سيخسر سنوات من عمره بتهمة شراكة شقيقه. بدا (س ـ أ) منزعجاً بعض الشيء في الحديث معي أثناء انتظار دوره إلى جانب زملاء سجنه، ولاحقاً علمت أنه يضع (حلة) على النار يريد اللحاق بها قبل أن تشتط رائحتها.. كان يتعايش مع أجواء السجن بصورة طيبة رغم ابتعاده عن ابنه الذي تكفلت شقيقته برعايته (11 عاماً) بعد أن تخلت والدته عنه، لم يكن يعلم أن السير في طريق المخدرات أشبه بالدخول إلى حقل الألغام، لم يجنِ منه سوى الألم خاصة بعد أن توفت والدته قبل إكمالها جرعاتها العلاجية، مهدراً معها عشرة أعوام من عمره يقضيها داخل السجن لم تتبقِ منها سوى ثلاث سنوات.
 (بنقو) الأسرار…
 أهدر وقته وماله من أجل (كيف زائف) عندما حاول إرضاء أصدقاء السوء ويملأ فراغه، فكان مصيره ثلاثة أعوام من السجن، مسؤولياته الجمة لم تثنه عن الابتعاد عن سيجارة (البنقو) ولكن حسب زعمه فالفراغ ولمة السوق هي التي وضعت أقدامه على أعتاب هذا الدرب، (ب ـ هـ)، يبلغ من العمر (29) عاماً يعمل جزاراً داخل السوق المحلي بالخرطوم، كانت بدايته مع المخدرات في عام 2001م ومسؤولياته الجمة التي تقع على عاتقه لم تثنه عن الغوص داخل (أسبار) هذا العالم الذي ترك معه أسرته المكونة من ستة أشخاص يعتبر هو أكبرهم.. ظروفه الأسرية حالت بينه وبين إكمال دراسته التي ترك مقاعدها في الصف الثامن، أموال خرافية كان يستنزفها منه شراء (القندول) الذي يقضيه أسبوعاً، من ثم تبدأ رحلة شراء قندول آخر بمبلغ ضخم لا يتناسب وعمله كجزار، وكأن رحلات بحثه تلك لم تكن إلا عن محكومية يقضي بسببها سنوات من عمره داخل السجن!!
وعن إحساسه الأول عندما تعاطي أول سيجارة (بنقو) يقول: (ما كنت عارف أنا حاسي بشنو، حالة ما بقدر أوصفها ليك ومع مرور الوقت بقيت بجيبا وتعودت عليها ولو ما شربتها بكون زهجان، وأردف: (لكن لو سألتي أي زول حتى البزرعا عن سر السيجارة دي ما حتلقي إجابة، أنا الآن تركتها وندمان على الأيام القضيتها داخل السجن).
   كان (ب ـ ا) آخر من جلست إليهم لم يستغرق الحديث معه وقتاً طويلاً، متزوج وأب لثلاثة أطفال ظروفه لم تكن سيئة حسب قوله، فقد كان يعمل في صيانة الموبايلات لم يتخيل للحظة أن عملية القبض عليه ستتم في المرة الأولى التي حاول فيها أن يكون (مرسالاً) ويقوم بتسليم المخدرات لأشخاص، محكوميته عشرون عاماً لم يمضِ منها سوى شهرين يحاول من خلال الاسترحام لتخفيفها دون نتائج إلى  الآن.
   لم تكن تلك الاعترافات سوى إضاءات وعبر، لمخاطر هذا الطريق أردنا من خلال نشرها إرسال إشارات إيضاحية قد تكون معلومة لدى البعض والبعض الآخر غافلاً عنها أو ربما غائبة عنه.. متاهات وقع في شباكها شباب غض أضاع مستقبله وضيع سنوات عمره خلف قضبان الندم والحسرة، فهل من متعظ؟

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية